الإجراءات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون الجنائيالقانون المصريجرائم الانترنت

الجرائم الجنائية المتصلة بالبيانات البيومترية

الجرائم الجنائية المتصلة بالبيانات البيومترية

تحديات الأمن السيبراني وحماية الهوية في العصر الرقمي

في عالم يتزايد فيه الاعتماد على التقنيات الرقمية، أصبحت البيانات البيومترية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، مستخدمة في كل شيء من فتح الهواتف الذكية إلى تأمين المعاملات البنكية. هذه البيانات، التي تشمل بصمات الأصابع، التعرف على الوجه، مسح قزحية العين، وحتى نبرة الصوت، تقدم مستوى فريدًا من الأمان. ومع ذلك، فإن طبيعتها الفريدة تجعلها هدفًا جذابًا للمجرمين، مما يطرح تحديات أمنية وقانونية معقدة تتطلب فهمًا عميقًا وحلولًا مبتكرة لمكافحة الجرائم الجنائية المتصلة بها.

مفهوم البيانات البيومترية وأهميتها القانونية

الجرائم الجنائية المتصلة بالبيانات البيومتريةتُعرف البيانات البيومترية بأنها الخصائص الفيزيولوجية أو السلوكية الفريدة التي تميز كل فرد عن غيره. هذه الخصائص لا يمكن نسخها بسهولة أو تبديلها، مما يمنحها قيمة كبيرة في عمليات التحقق من الهوية والأمان. تشمل الأمثلة الشائعة بصمات الأصابع، وأنماط قزحية العين، وشكل الوجه، وأنماط الصوت، وحتى طريقة المشي أو الكتابة.

تكمن الأهمية القانونية لهذه البيانات في قدرتها على ربط الفرد بهويته بشكل قاطع، مما يجعلها أدلة قوية في الإجراءات الجنائية والمدنية. استخدامها في الأنظمة الأمنية الحديثة يهدف إلى تعزيز الثقة وتقليل مخاطر الاحتيال وانتحال الشخصية، ولكن في المقابل يفرض مسؤوليات جسيمة على الجهات التي تقوم بجمعها وتخزينها وحمايتها.

أنواع الجرائم الجنائية المرتبطة بالبيانات البيومترية

تتعدد صور الجرائم التي تستهدف البيانات البيومترية أو تستخدمها كوسيلة لارتكاب أفعال إجرامية. هذه الجرائم لا تقتصر على سرقة البيانات فحسب، بل تمتد إلى استخدامها في عمليات احتيال معقدة قد تؤثر على الأفراد والمؤسسات على حد سواء.

سرقة البيانات البيومترية وانتحال الشخصية

تعتبر سرقة البيانات البيومترية هي الأساس للعديد من الجرائم الأخرى. يمكن للمجرمين الحصول على هذه البيانات من خلال اختراق قواعد البيانات، أو التصيد الاحتيالي، أو حتى التقاط البصمات من الأسطح المختلفة. بمجرد الحصول عليها، يمكن استخدامها لانتحال شخصية الضحية، والوصول إلى حساباته البنكية، أو خدماته الحكومية، أو حتى ارتكاب جرائم باسمه.

الاحتيال البيومتري وتجاوز أنظمة الأمان

يتضمن هذا النوع من الجرائم استخدام تقنيات متطورة لخداع الأنظمة البيومترية. يمكن للمجرمين إنشاء نسخ مزيفة من بصمات الأصابع أو أقنعة ثلاثية الأبعاد للوجه (Spoofing) لتجاوز آليات التحقق. يهدف ذلك إلى الوصول غير المصرح به إلى الأجهزة أو الأنظمة المحمية بيومتريًا، مما يفتح الباب أمام سرقة الأموال أو المعلومات السرية أو تخريب الأنظمة.

الابتزاز وتهديد الخصوصية باستخدام البيانات البيومترية

في بعض الحالات، لا يكون الهدف هو الوصول المباشر، بل استخدام البيانات البيومترية لابتزاز الأفراد. يمكن للمجرمين تهديد بنشر البيانات الحساسة أو استخدامها بشكل مسيء إذا لم يقم الضحية بدفع فدية. هذا النوع من الجرائم يستهدف بشكل مباشر خصوصية الأفراد وسلامتهم النفسية، ويؤثر على سمعتهم وحياتهم الشخصية والمهنية.

كيف تتم سرقة واستغلال البيانات البيومترية؟ خطوات عملية

تتنوع الأساليب التي يعتمدها المجرمون لسرقة البيانات البيومترية، وتتطلب فهمًا دقيقًا للحماية منها. هذه الأساليب غالبًا ما تجمع بين التقنيات الرقمية والتلاعب البشري.

الخطوة الأولى: جمع البيانات بطرق غير مشروعة

تتمثل هذه الخطوة في الحصول على البيانات البيومترية من مصادر مختلفة. قد يتم ذلك عبر اختراق أنظمة حفظ البيانات في الشركات أو المؤسسات التي تعتمد على هذه التقنيات. يمكن للمهاجمين أيضًا استخدام برامج خبيثة (Malware) تُزرع على أجهزة المستخدمين لسرقة البصمات أو صور الوجه أثناء استخدامهم لها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن جمع هذه البيانات بشكل فيزيائي، مثل الحصول على بصمات الأصابع من الأسطح أو الكاميرات من صور عالية الدقة.

الخطوة الثانية: إنشاء نماذج بيومترية مزيفة (Spoofing)

بعد جمع البيانات، يقوم المجرمون بإنشاء نماذج مطابقة للبيانات الأصلية. على سبيل المثال، يمكن صنع بصمات أصابع مزيفة باستخدام مواد رخيصة مثل الغراء أو الجيلاتين، أو إنشاء أقنعة وجه ثلاثية الأبعاد واقعية. هذه النماذج تستخدم بعد ذلك لخداع الأنظمة البيومترية، والتي قد لا تكون مجهزة للتمييز بين البيانات الحقيقية والمزيفة.

الخطوة الثالثة: تجاوز أنظمة التحقق والاحتيال

باستخدام النماذج المزيفة، يحاول المجرمون تجاوز آليات التحقق البيومتري للوصول إلى الأنظمة أو الحسابات المحمية. يمكن أن يشمل ذلك فتح الهواتف، أو الوصول إلى أجهزة الكمبيوتر، أو تنفيذ معاملات مالية، أو الدخول إلى مواقع حساسة. الهدف النهائي هو الحصول على مكاسب مادية أو الوصول إلى معلومات سرية أو انتحال شخصية الضحية لأغراض إجرامية.

حلول عملية للحماية من الجرائم البيومترية بأكثر من طريقة

تتطلب حماية البيانات البيومترية نهجًا متعدد المستويات يشمل الأفراد والمؤسسات والجهات التشريعية. يجب أن تكون هذه الحلول مرنة وتتكيف مع التطورات التكنولوجية المستمرة.

تعزيز الوعي الرقمي واستخدام المصادقة متعددة العوامل

يجب على الأفراد أن يكونوا حذرين للغاية بشأن كيفية استخدامهم ومشاركتهم لبياناتهم البيومترية. ينبغي تجنب استخدام البصمة أو التعرف على الوجه في الأماكن العامة غير الموثوقة. الأهم من ذلك، يفضل دائمًا تفعيل المصادقة متعددة العوامل (MFA) حيثما أمكن، بحيث لا يكون التحقق البيومتري هو الطبقة الوحيدة من الأمان، بل يقترن بكلمة مرور قوية أو رمز يُرسل إلى الجهاز. هذه الطريقة تزيد من صعوبة الاختراق بشكل كبير.

تبني تقنيات الكشف عن الحيوية ومكافحة الانتحال

تحتاج الشركات والمؤسسات التي تعتمد على أنظمة المصادقة البيومترية إلى استثمار في تقنيات الكشف عن الحيوية (Liveness Detection). هذه التقنيات قادرة على التمييز بين البيانات البيومترية الحقيقية التي تصدر عن كائن حي، والنماذج المزيفة أو المسجلة مسبقًا. يمكن أن تشمل هذه التقنيات تحليل حركة العين، أو نبض الجلد، أو الاستجابة الحرارية، مما يجعل من الصعب على المجرمين استخدام “البيانات الميتة” أو المزيفة.

تشفير البيانات وتأمين قواعد التخزين

يجب على جميع الجهات التي تجمع وتخزن البيانات البيومترية أن تطبق أعلى معايير التشفير والأمان لقواعد البيانات الخاصة بها. يجب تشفير البيانات سواء أثناء نقلها أو تخزينها (Encryption at rest and in transit). بالإضافة إلى ذلك، يجب تطبيق سياسات صارمة للتحكم في الوصول إلى هذه البيانات، وإجراء تدقيقات أمنية منتظمة للكشف عن أي نقاط ضعف أو محاولات اختراق محتملة. يمكن أن يساعد استخدام تقنيات مثل تقسيم البيانات (Sharding) أو التشفير المتماثل (Homomorphic Encryption) في زيادة مستوى الأمان.

التعامل القانوني مع ضحايا الجرائم البيومترية

عند وقوع ضحية لجريمة تتعلق بالبيانات البيومترية، هناك مجموعة من الخطوات القانونية التي يجب اتباعها لحماية الحقوق وتقديم الجناة للعدالة. تتطلب هذه الخطوات سرعة ودقة في التعامل.

الإبلاغ الفوري عن الجريمة وتوثيق الأدلة

يجب على الضحية فور اكتشاف الجريمة، سواء كانت سرقة هوية أو احتيال مالي، الإبلاغ عنها إلى الجهات الأمنية المختصة، مثل الشرطة أو النيابة العامة. من الضروري توثيق كافة الأدلة المتاحة، مثل رسائل البريد الإلكتروني المشبوهة، أو المعاملات غير المصرح بها، أو أي إشارات تدل على اختراق الأنظمة. هذه الأدلة ستكون حاسمة لمساعدة المحققين في تتبع الجناة وتقديمهم للمساءلة القانونية.

طلب المشورة القانونية وتفعيل الحماية المدنية

بعد الإبلاغ، يُنصح بشدة طلب المشورة من محامٍ متخصص في قضايا الجرائم الإلكترونية وحماية البيانات. يمكن للمحامي تقديم الإرشاد حول الإجراءات القانونية المتبعة، وكيفية حماية الحقوق المدنية للضحية، بما في ذلك إمكانية رفع دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية الناتجة عن الجريمة. هذه الخطوة تضمن أن الضحية يتخذ كافة الإجراءات الصحيحة وفقًا للقانون.

متابعة الإجراءات الجنائية والتعاون مع السلطات

يجب على الضحية أن يظل على اتصال مستمر مع الجهات الأمنية والقضائية لمتابعة سير التحقيقات. التعاون الكامل مع المحققين، وتقديم أي معلومات إضافية قد تظهر، أمر حيوي لنجاح القضية. في حال القبض على الجناة، قد يُطلب من الضحية الإدلاء بشهادته في المحكمة، مما يعد جزءًا أساسيًا من العملية القضائية لضمان تحقيق العدالة.

دور التشريعات والقانون المصري في حماية البيانات البيومترية

يواجه القانون المصري، شأنه شأن العديد من القوانين حول العالم، تحديات في مواكبة التطور السريع للتقنيات البيومترية والجرائم المرتبطة بها. ومع ذلك، هناك أطر قانونية قائمة يمكن تفعيلها، بالإضافة إلى الحاجة لتطوير تشريعات متخصصة.

قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018

يعد هذا القانون هو الإطار الأساسي لمواجهة الجرائم الإلكترونية في مصر. يتضمن مواد تجرم الدخول غير المصرح به إلى أنظمة المعلومات، واختراق البيانات، والاعتداء على سلامة وشبكات المعلومات. يمكن تفعيل هذه المواد في حالات سرقة البيانات البيومترية أو استخدامها في الاحتيال، حيث تعتبر هذه الأفعال ضمن نطاق الجرائم المعلوماتية التي يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة.

القانون الجنائي العام وقوانين حماية الخصوصية

بالإضافة إلى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، يمكن تفعيل بعض مواد القانون الجنائي العام المتعلقة بالسرقة والنصب والابتزاز، إذا ما استخدمت البيانات البيومترية كوسيلة لارتكاب هذه الجرائم. كما أن هناك مبادئ عامة لحماية الخصوصية في الدستور المصري، والتي يمكن أن تشكل أساسًا قانونيًا لحماية البيانات الشخصية، بما في ذلك البيومترية، من الاستغلال غير المشروع.

التطلع نحو تشريعات متخصصة لحماية البيانات البيومترية

نظرًا للطبيعة الحساسة والفريدة للبيانات البيومترية، هناك حاجة ملحة لتطوير تشريعات مصرية متخصصة تركز بشكل مباشر على حمايتها. يجب أن تتناول هذه التشريعات كيفية جمع وتخزين ومعالجة البيانات البيومترية، وتحدد المسؤوليات على الجهات التي تتعامل معها، وتفرض عقوبات رادعة على أي انتهاك لهذه البيانات، مع توفير آليات واضحة للتعويض عن الأضرار التي تلحق بالضحايا. هذا التطور القانوني سيسهم في بناء بيئة رقمية أكثر أمانًا وثقة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock