الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصري

الدفع بانعدام ركن النشر في جريمة ازدراء الأديان

الدفع بانعدام ركن النشر في جريمة ازدراء الأديان

تحليل قانوني وعملي لطرق إثبات عدم توافر الركن المادي للجريمة

الدفع بانعدام ركن النشر في جريمة ازدراء الأديان

تُعد جريمة ازدراء الأديان من الجرائم التي تمس قدسية المعتقدات وتثير حساسيات مجتمعية واسعة. يعالج القانون المصري هذه الجريمة بتفاصيل محددة، حيث يشكل ركن النشر عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه لقيامها. يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل قانوني وعملي مفصل حول كيفية الدفع بانعدام هذا الركن، موضحًا الخطوات والإجراءات المتبعة لإثبات عدم توافر النشر، وبالتالي درء المساءلة الجنائية. سنستعرض الجوانب القانونية والفقهية، بالإضافة إلى الحلول العملية المتعددة التي يمكن للمحامين والأفراد اللجوء إليها.

مفهوم ركن النشر في جريمة ازدراء الأديان

التعريف القانوني لركن النشر

يُقصد بركن النشر في جريمة ازدراء الأديان إتاحة المحتوى محل الازدراء لعدد غير محدد من الأشخاص أو للجمهور بصفة عامة، بحيث يتمكنون من الإطلاع عليه. يشمل ذلك النشر التقليدي عبر الكتب والصحف والمجلات، والنشر الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المختلفة. لا يكفي مجرد التعبير عن الرأي بشكل شخصي أو خاص ليتحقق هذا الركن، بل يجب أن يكون هناك فعل إيجابي يهدف إلى تعميم المحتوى وتداوله. ويجب أن يكون الفعل مقصوداً وواعياً من قبل المتهم.

يهدف هذا الشرط القانوني إلى التمييز بين الأفكار أو الآراء الخاصة التي لا ينبغي أن تكون محل تجريم، وبين الأفعال التي تتعدى المجال الشخصي وتؤثر على المجتمع بأسره. وبالتالي، فإن غياب القصد الجنائي الخاص بالنشر، أو عدم تحقق العلانية المطلوبة، ينفي وجود هذا الركن الجوهري. يُعد فهم هذا التعريف بدقة حجر الزاوية في بناء أي دفع قانوني فعال في هذا النوع من القضايا، وذلك لضمان تطبيق صحيح للقانون وحماية للحريات.

أهمية ركن النشر كعنصر جوهري للجريمة

يُعتبر ركن النشر أحد الأركان المادية الثلاثة لجريمة ازدراء الأديان، إلى جانب فعل الازدراء نفسه والقصد الجنائي. بدونه، لا يمكن للجريمة أن تقوم قانونًا، حتى وإن كان المحتوى في حد ذاته يحمل صفة الازدراء. تكمن أهميته في أنه يمثل الخط الفاصل بين التعبير عن رأي شخصي قد يكون غير مقبول لكنه يظل في نطاق خاص، وبين فعل يستهدف إثارة الفتنة أو الإساءة علنًا لمعتقدات الآخرين، مما يهدد السلم الاجتماعي. وبالتالي، فإن الدفع بانعدامه يُعد من أقوى الدفوع التي يمكن أن تؤدي إلى براءة المتهم.

يوفر هذا الركن حماية لحرية التعبير الشخصي، طالما لم يتجاوز هذا التعبير حدود الخصوصية ولم يصل إلى مرحلة العلانية. فليس كل ما يكتبه أو يقوله الإنسان في إطاره الخاص يمكن أن يُعد جريمة ازدراء أديان. يجب أن يكون هناك دليل قاطع على أن المتهم قد سعى بنشاط لتعميم ونشر المحتوى للعامة. إن غياب هذا الدليل، أو إثبات عكسه، يعني أن الجريمة لم تكتمل أركانها القانونية وبالتالي لا مجال للمساءلة الجنائية، وهو ما يؤكد أهمية التدقيق في هذا الركن الحيوي.

الأسس القانونية للدفع بانعدام ركن النشر

النصوص القانونية ذات الصلة في القانون المصري

تُجرم جريمة ازدراء الأديان في مصر بموجب المادة 98 (و) من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على عقوبة الحبس والغرامة لمن يقوم باستغلال الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو الكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلم الاجتماعي. يتبين من صياغة النص ضرورة وجود عنصر النشر “بالقول أو الكتابة أو بأي وسيلة أخرى” كشرط أساسي لتحقق الجريمة. هذا التأكيد على وسائل النشر يبرز أهمية ركن العلانية.

كما أن المادة 171 من قانون العقوبات تحدد مفهوم العلانية بشكل عام، حيث تشير إلى أن العلانية تتحقق بالقول أو الصياح أو الأغاني بالمحلات أو الأماكن العمومية أو بالاجتماعات العمومية، أو بالكتابة أو بالرسوم أو بالصور أو بالصور الشمسية أو الرموز أو بأية طريقة أخرى من طرق التمثيل، إذا كانت قد عرضت أنظار الجمهور مباشرة أو بطريق بيعها أو عرضها للبيع أو توزيعها على عدد من الناس. هذه المواد تشكل الأساس القانوني الذي يستند إليه الدفع بانعدام ركن النشر، مؤكدة على ضرورة إثبات أن فعل المتهم لم يصل إلى حد العلانية المطلوب قانونًا.

السوابق القضائية والمبادئ القانونية

تُشير العديد من أحكام محكمة النقض المصرية إلى أهمية ركن النشر وتُرسّخ مبدأ أن غيابه ينفي قيام جريمة ازدراء الأديان. فقد استقرت أحكام النقض على أن مجرد كتابة أو حيازة مواد تُعتبر ازدراءً للأديان لا يُشكل جريمة ما لم يقم المتهم بنشرها أو عرضها على الجمهور. وتؤكد المحكمة أن القصد الجنائي الخاص بالنشر يجب أن يكون ثابتًا بالدليل اليقيني، وأنه لا يُفترض بمجرد وجود المحتوى، بل يتوجب على النيابة إثبات فعل النشر وعلانيته بوضوح وجلاء.

تُعد هذه السوابق القضائية بمثابة مرشد للمحامين والقضاة على حد سواء، حيث تُقدم إطارًا واضحًا لكيفية التعامل مع هذا الدفع. تُشدد المبادئ القضائية على ضرورة التفريق بين الرأي الشخصي أو التداول في نطاق ضيق ومغلق، وبين الفعل الذي يستهدف الوصول إلى أوسع شريحة من الجمهور. إن الاستناد إلى هذه الأحكام وتطبيق مبادئها يضمن عدالة المحاكمة ويحمي حريات الأفراد من التوسع في تجريم الأفعال التي لا تندرج تحت مفهوم النشر العلني وفقًا للقانون.

طرق عملية لإثبات انعدام ركن النشر

عدم وصول المحتوى للجمهور

لإثبات انعدام ركن النشر، يمكن للمتهم أو دفاعه تقديم أدلة قاطعة على أن المحتوى المزعوم لم يصل إلى الجمهور العريض أو لم يتم تداوله علانية. يتم ذلك بتقديم ما يثبت أن المحتوى كان محتجزًا في حيازة المتهم الخاصة، مثل رسائل إلكترونية شخصية لم يتم إرسالها لأكثر من عدد محدود من الأفراد، أو مذكرات خاصة، أو وثائق محفوظة على جهاز شخصي غير متصل بشبكة عامة. يجب التأكيد على أن المتهم لم يتخذ أي إجراءات فعلية لتعميم هذا المحتوى أو نشره للعامة بأي شكل من الأشكال.

كما يمكن إثبات أن المحتوى لم يكن متاحًا للعامة من خلال تقديم تقارير فنية أو شهادات توضح أن طريقة حفظ أو تداول المحتوى كانت مقيدة. على سبيل المثال، إذا كان المحتوى موجودًا على منصة إلكترونية تتطلب تسجيل دخول خاص ومحدود، أو ضمن مجموعة مغلقة جدًا لا يتجاوز أعضاؤها عددًا ضئيلًا لا يحقق العلانية المطلوبة قانونًا. هذه الإجراءات تتطلب دقة في جمع الأدلة وعرضها بشكل منهجي ومنطقي أمام المحكمة، مدعومة بالخبرة الفنية اللازمة لتفنيد ادعاء النيابة بالعلانية.

عدم تحقق العلانية الكافية

حتى وإن وصل المحتوى إلى عدد محدود من الأشخاص، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تحقق العلانية الكافية لقيام ركن النشر وفقًا للقانون. يجب أن يكون النشر قد تم بقصد الوصول إلى جمهور واسع وغير محدد. فمثلًا، إرسال رسالة بريد إلكتروني تحتوي على نص معين إلى عدد محدود من الأصدقاء أو الزملاء، حتى وإن كانت تتضمن آراء تُعتبر ازدراءً، لا يمكن أن يُعتبر نشرًا علنيًا ما لم يكن هناك دليل على نية المتهم تعميمها. يقع عبء الإثبات هنا على عاتق النيابة العامة لبيان كيف تحققت العلانية.

يمكن للمحامي تقديم دفع بأن عدد المتلقين للمحتوى كان ضئيلًا للغاية ولا يتجاوز حدود التواصل الشخصي أو المهني، أو أن المحتوى كان معدًا لأغراض خاصة أو بحثية ضمن نطاق محدود. كما يمكن إبراز أن الوصول إلى المحتوى كان مقيدًا بوسائل حماية، أو أنه لم يُتخذ أي إجراء لجذب الانتباه إليه من قبل الجمهور. هذه الدفوع تتطلب تحليلًا دقيقًا لطريقة تداول المحتوى والوسائل المستخدمة، ومقارنتها بالمعايير القانونية لمفهوم العلانية التي نصت عليها المادة 171 من قانون العقوبات وما استقرت عليه أحكام النقض.

إثبات طبيعة المحتوى الخاص أو العلمي

يمكن تقديم دفع بأن طبيعة المحتوى نفسه تُبعده عن نطاق النشر بقصد الازدراء، حتى لو كان يثير جدلًا. إذا كان المحتوى ذا طبيعة علمية، بحثية، فكرية، أو نقدية بناءة، وموجهًا لمتخصصين أو ضمن سياق أكاديمي أو ثقافي مغلق، فإنه قد لا يندرج تحت مفهوم النشر الإجرامي. على سبيل المثال، ورقة بحثية تُناقش جوانب تاريخية أو فكرية معينة قد تُفسر على أنها ازدراء في سياق عام، لكنها في سياقها العلمي المحدود لا تهدف إلى الإساءة أو إثارة الفتنة.

في هذه الحالات، يجب على الدفاع تقديم أدلة تُوضح السياق الذي كُتب فيه المحتوى والغرض الحقيقي من إعداده. يمكن الاستعانة بشهادات أساتذة جامعيين أو خبراء في المجال المعني لتوضيح الطابع العلمي أو البحثي للمحتوى. هذا الدفع يركز على القصد الجنائي للمتهم، مؤكدًا أنه لم يكن يرمي إلى الازدراء أو التحقير العام، بل إلى التحليل أو النقاش في إطار مشروع ومحدود. يتطلب هذا الدفع بناءً قويًا للحجة يعتمد على تفهم عميق للمحتوى وسياقه، مدعومًا بشهادات أهل الخبرة.

حلول إضافية واعتبارات هامة عند تقديم الدفع

أهمية دور المحامي في صياغة الدفع

لا يقتصر دور المحامي على مجرد تقديم الدفوع الشفهية، بل يمتد ليشمل صياغة مذكرة دفاع مفصلة وشاملة تتضمن جميع الجوانب القانونية والواقعية للدفع بانعدام ركن النشر. يجب على المحامي تحليل القضية بدقة، وجمع كافة الأدلة التي تدعم موقفه، سواء كانت مستندات، شهادات شهود، أو تقارير فنية. كما ينبغي له أن يستعرض السوابق القضائية المشابهة ويُبرز ما يدعم وجهة نظره فيها، ويُبرز الفروقات الدقيقة بين حالة موكله والحالات التي قضت فيها المحكمة بالإدانة.

تُعد القدرة على بناء حجة قانونية متماسكة ومقنعة أمرًا بالغ الأهمية. يجب على المحامي أن يكون قادرًا على تفكيك عناصر الجريمة وإظهار أوجه القصور في إثبات ركن النشر من قبل النيابة العامة. يتضمن ذلك التركيز على الجانب الفني في حال النشر الإلكتروني، والاستعانة بخبراء في تكنولوجيا المعلومات لتقديم تقارير تثبت عدم علانية المحتوى أو عدم وصوله للجمهور. إن الكفاءة في صياغة الدفع وعرضه بشكل منهجي يُعزز فرص قبول المحكمة له ويُمكن أن يغير مسار القضية بالكامل.

استغلال الثغرات الإجرائية والقانونية

بالإضافة إلى الدفع الموضوعي بانعدام ركن النشر، يجب على الدفاع استكشاف أي ثغرات إجرائية أو قانونية قد تشوب التحقيقات أو إجراءات المحاكمة. فمثلًا، إذا كانت هناك مخالفات في إجراءات الضبط أو التفتيش التي أدت إلى الكشف عن المحتوى، يمكن الدفع ببطلان هذه الإجراءات وبالتالي استبعاد الأدلة المستمدة منها. كما يمكن البحث عن أي قصور في توصيف النيابة العامة للواقعة أو في استيفاء التحقيقات لجميع جوانب القضية.

يُعد التدقيق في صحة ودقة المحاضر والتقارير الفنية المقدمة من النيابة أمرًا حيويًا. فإذا تبين أن هناك أخطاء في تحديد مصدر النشر، أو توقيت انتشاره، أو نطاق وصوله، يمكن استغلال هذه الأخطاء لدعم الدفع بانعدام ركن النشر أو لزعزعة ثقة المحكمة في أدلة الاتهام. يتطلب هذا النهج معرفة عميقة بالقانون الإجرائي والقدرة على رصد أي نقاط ضعف في ملف القضية، مما يتيح تقديم حلول دفاعية متعددة ومتكاملة.

متطلبات إضافية للدفع

في قضايا ازدراء الأديان التي تستند إلى محتوى إلكتروني، يُصبح الاستعانة بخبراء فنيين متخصصين في تكنولوجيا المعلومات أمرًا ضروريًا لدعم الدفع بانعدام ركن النشر. يمكن لهؤلاء الخبراء تقديم تقارير فنية تُثبت أن المحتوى لم يكن متاحًا للعامة، أو أن الوصول إليه كان مقيدًا، أو أن طريقة نشره لم تحقق العلانية المطلوبة. هذه التقارير تُعد دليلًا ماديًا قويًا يُعزز موقف الدفاع أمام المحكمة ويُقدم تفسيرًا تقنيًا للجانب الفني في القضية.

علاوة على ذلك، يمكن الاستعانة بشهادة الشهود الذين قد يُثبتون أن المحتوى كان معدًا للاستهلاك الخاص أو لم يتم تداوله علانية بمعرفتهم. يجب أن يكون الشهود على دراية مباشرة بالظروف التي أحاطت بالمحتوى وطريقة تداوله. إن تجميع هذه المتطلبات الإضافية، من أدلة فنية وشهادات، يُقدم صورة متكاملة للمحكمة ويُعزز من قوة الدفع بانعدام ركن النشر، مما يُسهم في الوصول إلى حلول قضائية عادلة ومتوازنة في هذا النوع المعقد من القضايا.

الخاتمة

يُعد الدفع بانعدام ركن النشر في جريمة ازدراء الأديان أحد أهم الدفوع الجوهرية التي يمكن أن تُغير مسار القضية تمامًا، نظرًا لأهمية هذا الركن كعنصر أساسي لقيام الجريمة. من خلال هذا المقال، استعرضنا التعريف القانوني لركن النشر، وأهميته كخط فاصل بين التعبير الشخصي والفعل الإجرامي، بالإضافة إلى الأسس القانونية التي يستند إليها هذا الدفع من نصوص قانونية وسوابق قضائية. كما قدمنا طرقًا عملية متعددة لإثبات عدم توافر هذا الركن، سواء بإثبات عدم وصول المحتوى للجمهور، أو عدم تحقق العلانية الكافية، أو إثبات طبيعة المحتوى الخاص أو العلمي.

تكمن قوة هذا الدفع في قدرة الدفاع على تقديم أدلة دامغة تفند ادعاء النيابة بالعلانية، مدعومًا بجهود المحامي في صياغة دفاع متكامل واستغلال أي ثغرات إجرائية. إن فهم جميع جوانب الموضوع وتقديم حلول منطقية وبسيطة، إلى جانب الاستعانة بالخبرات الفنية وشهادات الشهود، يُمكن أن يُسهم في تحقيق العدالة. لذا، يتوجب على كل من يتعرض لمثل هذه الاتهامات أن يُولي اهتمامًا بالغًا لهذا الدفع، ويعمل بالتعاون مع محامٍ متخصص لضمان أفضل نتائج ممكنة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock