القانون المصري في مواجهة جرائم التلاعب بالعملات الرقمية
محتوى المقال
القانون المصري في مواجهة جرائم التلاعب بالعملات الرقمية
تحديات وآليات المكافحة القانونية للاحتيال الرقمي
مع التوسع المتسارع في استخدام العملات الرقمية، تتزايد كذلك أنواع الجرائم المرتبطة بها، وعلى رأسها التلاعب والاحتيال. يواجه القانون المصري تحديًا كبيرًا في مواجهة هذه الجرائم المعقدة والعابرة للحدود. يستعرض هذا المقال الإطار القانوني القائم في مصر لمكافحة جرائم التلاعب بالعملات الرقمية، ويوضح الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها للإبلاغ عن هذه الجرائم، بالإضافة إلى تقديم حلول وقائية لحماية المستثمرين والمتعاملين في هذا السوق المتطور.
فهم طبيعة جرائم التلاعب بالعملات الرقمية
تُعد جرائم التلاعب بالعملات الرقمية من الظواهر الحديثة التي تستغل الطبيعة اللامركزية والتقنية لسوق الكريبتو. تتنوع أساليب هذه الجرائم وتشمل مخططات احتيالية معقدة تهدف إلى سرقة الأموال أو التلاعب بأسعار الأصول الرقمية لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
أنواع التلاعب الشائعة في سوق العملات الرقمية
هناك عدة أنواع من جرائم التلاعب تستهدف المتعاملين بالعملات الرقمية. من أبرز هذه الأنواع، مخططات “ضخ وتفريغ” التي يقوم فيها المحتالون بشراء كميات كبيرة من عملة قليلة القيمة، ثم يروجون لها بشكل مكثف لرفع سعرها بشكل مصطنع، قبل بيعها بكميات كبيرة فور ارتفاع سعرها، مما يؤدي إلى انهيار قيمة العملة وخسارة المستثمرين الآخرين.
تتضمن الأنواع الأخرى الاحتيال عن طريق التصيد (Phishing)، حيث يتم إيهام الضحايا بوجود منصات أو محافظ وهمية لسرقة بياناتهم الشخصية وأموالهم. كما تُستخدم الهندسة الاجتماعية لخداع الأفراد وكسب ثقتهم للحصول على مفاتيح محافظهم الرقمية. الاحتيال عبر العروض الأولية المزيفة للعملات (ICO Scams) هو أيضًا شائع، حيث يتم جمع أموال من المستثمرين لمشروع وهمي ثم يختفي المحتالون بالأموال.
التحديات القانونية في مواجهة هذه الجرائم
تُشكل جرائم العملات الرقمية تحديًا كبيرًا أمام الأجهزة القانونية والعدلية. من أبرز هذه التحديات عدم وجود تشريعات واضحة ومحددة بشكل مباشر للتعامل مع كافة جوانب العملات الرقمية في كثير من الدول، بما في ذلك بعض الجوانب في مصر. كما أن الطبيعة اللامركزية والعابرة للحدود لهذه المعاملات تجعل تحديد المسؤولية الجنائية وتتبع الجناة أمرًا معقدًا وصعبًا.
تتطلب هذه الجرائم خبرات تقنية متقدمة في التحقيق وجمع الأدلة الرقمية، وهي خبرات قد لا تكون متاحة بشكل كافٍ لدى جميع الجهات القانونية. صعوبة تتبع مسار العملات الرقمية، على الرغم من شفافية بعض سلاسل الكتل (Blockchains)، تُعد عائقًا إضافيًا، خاصةً عند استخدام محافظ مجهولة أو خدمات خلط العملات (Mixers).
الإطار القانوني المصري لمكافحة الجرائم الرقمية
على الرغم من عدم وجود قانون مستقل وشامل للتعامل مع العملات الرقمية بشكل كامل في مصر، إلا أن هناك عدة تشريعات قائمة يمكن الاستناد إليها لمواجهة جرائم التلاعب والاحتيال المرتبطة بها. تعمل هذه القوانين كغطاء قانوني لإنفاذ العدالة وحماية الأفراد من هذه الأنشطة غير المشروعة.
قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (رقم 175 لسنة 2018)
يُعد هذا القانون الأداة الرئيسية لمكافحة الجرائم الإلكترونية في مصر. يتضمن القانون نصوصًا تجرم الأفعال المتعلقة بالوصول غير المشروع إلى أنظمة معلوماتية، والاعتداء على سلامة البيانات والمعلومات، والاحتيال عبر شبكة الإنترنت. يمكن تطبيق هذه النصوص على التلاعب بالعملات الرقمية إذا كان ذلك ينطوي على اختراق لمنصات التداول أو سرقة بيانات المستخدمين.
يجرم القانون أيضًا أفعال الاحتيال المرتبطة بالإنترنت، والتي قد تشمل مخططات “ضخ وتفريغ” أو عروض العملات الأولية المزيفة التي تعتمد على تضليل الضحايا عبر الوسائل الرقمية. كما ينص على عقوبات لمن يقومون بإنشاء مواقع إلكترونية وهمية بغرض الاحتيال.
قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي (رقم 194 لسنة 2020)
ينص هذا القانون في مادته رقم 206 على حظر إصدار العملات المشفرة أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها دون الحصول على ترخيص من مجلس إدارة البنك المركزي. هذا الحظر يجعل أي نشاط متعلق بالعملات الرقمية غير مرخص فعلاً غير قانوني، ويمنح الجهات الرقابية صلاحية التحقيق والملاحقة لأي تلاعب يتم ضمن هذه الأنشطة.
يوفر هذا القانون أساسًا قانونيًا قويًا لملاحقة الأشخاص أو الكيانات التي تقوم بالتلاعب في سوق العملات الرقمية دون ترخيص، ويعاقب كل من يخالف ذلك بالحبس وبغرامة كبيرة. هذا يهدف إلى حماية النظام المالي المصري من المخاطر المرتبطة بالعملات المشفرة غير المنظمة.
قانون مكافحة غسل الأموال (رقم 80 لسنة 2002 وتعديلاته)
تُعد العملات الرقمية وسيلة محتملة لغسل الأموال بسبب طبيعتها التي قد تتيح إخفاء المصادر غير المشروعة للأموال. يمكن تطبيق قانون مكافحة غسل الأموال المصري على الحالات التي يتم فيها استخدام العملات الرقمية لتحويل أموال متحصلة من أنشطة إجرامية أو لإخفاء ملكيتها.
تلزم التشريعات المصرية المؤسسات المالية بالإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، ويمكن توسيع هذا النطاق ليشمل الجهات التي تتعامل مع الأصول الرقمية إذا كانت هناك شبهات حول استخدامها في عمليات غسل أموال. تقع مسؤولية كبيرة على عاتق وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في تتبع هذه المعاملات.
خطوات عملية للإبلاغ عن جرائم التلاعب بالعملات الرقمية
عندما يقع شخص ضحية لجرائم التلاعب بالعملات الرقمية، فإن سرعة ودقة الإبلاغ تُعدان عاملين حاسمين لاستعادة الحقوق وملاحقة الجناة. يتطلب الأمر اتباع خطوات منهجية لضمان فعالية الإجراءات القانونية.
جمع الأدلة الرقمية لتدعيم البلاغ
تُعد الأدلة الرقمية الركيزة الأساسية لأي بلاغ يتعلق بجرائم العملات الرقمية. يجب على الضحية جمع كافة المستندات والمعلومات التي تثبت وقوع الجريمة. يشمل ذلك لقطات شاشة (Screenshots) للمحادثات، المعاملات على البلوك تشين (Blockchain Transactions) مع تحديد عناوين المحافظ الرقمية للمحتالين، ورسائل البريد الإلكتروني، وأي روابط لمواقع أو منصات وهمية.
يجب حفظ جميع سجلات المعاملات بدقة، بما في ذلك تواريخ التحويلات وقيمتها ونوع العملة. من المهم أيضًا الاحتفاظ بجميع الرسائل النصية أو التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تمت مع المحتالين. هذه الأدلة تساعد الجهات الأمنية والقضائية على تتبع الجناة وفهم طبيعة الجريمة.
إجراءات الإبلاغ لدى النيابة العامة أو الأجهزة الأمنية المتخصصة
بعد جمع الأدلة، يجب على الضحية التوجه إلى أقرب قسم شرطة أو النيابة العامة لتقديم بلاغ رسمي. من الأفضل التوجه إلى إدارة مكافحة جرائم الحاسبات وشبكات المعلومات بوزارة الداخلية، حيث يمتلكون الخبرة الكافية في التعامل مع هذه الأنواع من الجرائم.
يجب تقديم جميع الأدلة المجمعة وتقديم تفاصيل دقيقة عن كيفية وقوع الجريمة، مع تحديد الأطراف المتورطة إن أمكن. ستقوم النيابة العامة بفتح تحقيق واستدعاء الشهود وإجراء التحريات اللازمة. من المهم التعاون الكامل مع المحققين وتقديم أي معلومات إضافية قد تُطلب.
دور المحاكم الاقتصادية في الفصل في هذه القضايا
في مصر، تُعد المحاكم الاقتصادية هي الجهة المختصة بالفصل في القضايا المتعلقة بجرائم تقنية المعلومات والجرائم المالية المعقدة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالعملات الرقمية. بعد انتهاء التحقيقات الأولية من قبل النيابة العامة، تُحال القضية إلى المحكمة الاقتصادية المختصة.
تتمتع المحاكم الاقتصادية بقضاة متخصصين في الجوانب المالية والتقنية للقضايا. يمكن للمحكمة إصدار أحكام جنائية ضد الجناة، بالإضافة إلى أحكام مدنية تعويضية للضحايا لاسترداد أموالهم. قد تستغرق هذه الإجراءات وقتًا، ولكنها تُعد المسار القانوني الصحيح لإنصاف الضحايا.
سبل الوقاية وتعزيز الأمان في التعامل مع العملات الرقمية
الوقاية خير من العلاج، وهذا ينطبق بشكل خاص على سوق العملات الرقمية الذي يكتنفه الغموض ويشهد حركات سعرية متقلبة. لتقليل مخاطر الوقوع ضحية لجرائم التلاعب، يجب على المتعاملين والمستثمرين اتخاذ إجراءات احترازية قوية وتبني أفضل الممارسات الأمنية.
الوعي القانوني والتقني للمتعاملين بالعملات الرقمية
يجب على المستثمرين في العملات الرقمية أن يكونوا على دراية تامة بالمخاطر المحتملة والتشريعات القانونية المحلية. يُنصح بالبحث والتعمق في طبيعة العملة أو المشروع قبل الاستثمار فيه، والتحقق من مصداقية المنصات التي يتم التداول عليها. ينبغي تجنب المنصات غير المرخصة أو التي تروج لعوائد استثمارية خيالية وغير واقعية.
من الضروري أيضًا تعزيز الوعي التقني، مثل فهم كيفية عمل المحافظ الرقمية (Hot & Cold Wallets)، وتأمينها باستخدام كلمات مرور قوية ومصادقة ثنائية العامل (2FA). يجب الحذر من رسائل التصيد والروابط المشبوهة، وعدم مشاركة المفاتيح الخاصة أو عبارات الاسترداد (Seed Phrases) مع أي شخص مطلقًا، حيث أنها تمثل مفتاح الوصول إلى الأموال.
دور الجهات الرقابية والمؤسسات المالية في حماية السوق
تلعب الجهات الرقابية المصرية، مثل البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية، دورًا حيويًا في مراقبة السوق الرقمي الناشئ وحماية المتعاملين. يتطلب ذلك إصدار تشريعات واضحة ومنظمة للتعامل مع العملات الرقمية لمنع التلاعب وتحديد المسؤوليات.
يجب على هذه الجهات تكثيف حملات التوعية للمواطنين حول مخاطر الاستثمار في العملات الرقمية غير المنظمة وكيفية التعرف على مخططات الاحتيال. كما يمكن للمؤسسات المالية التقليدية تطوير حلول آمنة وموثوقة للتعامل مع الأصول الرقمية لتوفير بدائل للمنصات غير الموثوقة، مما يساهم في بناء سوق رقمي أكثر أمانًا وشفافية في مصر.
في الختام، تُشكل جرائم التلاعب بالعملات الرقمية تحديًا معقدًا يتطلب استجابة قانونية وتقنية متكاملة. بينما يعمل القانون المصري على توفير الحماية من خلال تشريعات قائمة ومسارات قضائية، تظل مسؤولية الوعي والحذر تقع بالدرجة الأولى على عاتق المتعاملين. بالتعاون بين الأفراد والجهات الرقابية، يمكن بناء بيئة أكثر أمانًا لمستقبل العملات الرقمية في مصر.