الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون الجنائيالقانون المصري

جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه أثناء التحقيق

جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه أثناء التحقيق

الآثار القانونية والفنية لمواجهة هذا التحدي المتزايد

في العصر الرقمي المتسارع، تبرز تحديات إجرامية جديدة تتطلب فهماً عميقاً وإجراءات قانونية وفنية مبتكرة. من بين هذه التحديات، تبرز ظاهرة تعطيل برامج التعرف على الوجوه أثناء سير التحقيقات القضائية. يهدف هذا الفعل إلى إعاقة مسار العدالة من خلال إخفاء هوية المتهمين أو الشهود، مما يعقد عملية الوصول إلى الحقيقة. يتطلب التصدي لهذه الجريمة فهم الإطار القانوني الذي يحكمها، وكذلك الإلمام بالتقنيات المستخدمة في التعطيل وسبل الكشف عنها ومواجهتها. هذا المقال سيتناول هذه الجريمة من جوانبها المتعددة، مقدماً حلولاً عملية لمواجهتها في سياق القانون المصري.

الإطار القانوني لجريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه

تعريف الجريمة والعقوبات المقررة

جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه أثناء التحقيقتُعد جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه نوعاً مستحدثاً من الجرائم الإلكترونية التي تستهدف تعطيل أو التلاعب بالأنظمة التقنية المستخدمة في التحقيقات الجنائية. لا يوجد نص قانوني صريح في القانون المصري يجرم تعطيل برامج التعرف على الوجوه بحد ذاته، لكن يمكن تكييف الفعل تحت نصوص قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، أو قانون العقوبات العام. يمكن أن يُصنف هذا الفعل ضمن جرائم الاعتداء على الأنظمة المعلوماتية أو إعاقة عملها، أو حتى تزوير الأدلة الرقمية. تختلف العقوبة بناءً على التكييف القانوني، فقد تصل إلى الحبس والغرامة، أو السجن المشدد في بعض الحالات التي يترتب عليها إعاقة سير العدالة بشكل جسيم.

يعتمد تحديد العقوبة أيضاً على القصد الجنائي للجاني والضرر الناتج عن هذا التعطيل. إذا كان القصد هو تضليل العدالة أو إخفاء حقيقة جريمة كبرى، فإن العقوبة تكون أشد. تتطلب الملاحقة القضائية لهذه الجرائم فهماً دقيقاً للأدلة الرقمية وكيفية جمعها وتحليلها لتقديمها للمحكمة. يجب أن يكون هناك تدريب متخصص للمحققين والنيابة العامة للتعامل مع هذه الأنواع من الجرائم المعقدة والتي تعتمد على التكنولوجيا بشكل كبير.

الأسانيد القانونية ذات الصلة

تستند الملاحقة القضائية لهذه الجريمة إلى عدة مواد قانونية متفرقة. فبموجب المادة 16 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، يعاقب كل من دخل أو تعمد الدخول غير المشروع إلى نظام معلوماتي بقصد إتلافه أو تعطيله أو إعاقة عمله. كما يمكن أن تندرج تحت المادة 24 من نفس القانون التي تجرم التعديل أو التغيير غير المشروع في البيانات أو المعلومات. كذلك، قد يُطبق عليها أحكام جرائم التزوير إذا كان الهدف هو تغيير الحقيقة أو إخفاء هوية شخص. بالإضافة إلى ذلك، قد يتم تطبيق المواد المتعلقة بالاشتراك في جريمة أو المساعدة على الهروب من العدالة، وذلك حسب دور مرتكب فعل التعطيل.

يجب على الجهات القضائية الاستناد إلى تفسيرات موسعة لهذه النصوص لتشمل أشكال الجرائم الإلكترونية المستجدة. يتطلب ذلك مرونة في تطبيق القانون وفهماً عميقاً للتقنيات المستخدمة في هذه الجرائم. كما أن النصوص العامة في قانون العقوبات التي تجرم إعاقة سير العدالة أو تضليل التحقيق يمكن أن تكون سنداً قانونياً في بعض الحالات، خاصة إذا ثبت أن الهدف الأساسي من التعطيل كان إفلات متهم من العقاب أو عرقلة كشف الحقيقة الجنائية.

الدوافع والأسباب المحتملة لتعطيل برامج التعرف على الوجوه

الدوافع الإجرامية

غالباً ما تكون الدوافع وراء تعطيل برامج التعرف على الوجوه إجرامية بحتة. الهدف الرئيسي هو إخفاء هوية الجناة أو شركائهم، وبالتالي التهرب من المساءلة القانونية. قد يتم ذلك في سياق جرائم كبرى مثل السرقة المسلحة، جرائم الإرهاب، أو حتى في قضايا الاحتيال المالي حيث يرغب الجاني في عدم الكشف عن هويته عند ارتكاب الجريمة أو محاولة تتبع خطواته لاحقاً. يمكن أن يشمل التعطيل محاولات التلاعب بالبيانات المسجلة، أو إتلاف الخوادم التي تخزن هذه البيانات، أو استخدام تقنيات متقدمة لتشويه الصور والفيديوهات الملتقطة بواسطة أنظمة المراقبة. يسعى الجاني بذلك إلى تدمير الأدلة التي قد تدينه بشكل مباشر أو غير مباشر.

قد تكون هذه الدوافع مرتبطة بشبكات إجرامية منظمة تعمل على التنسيق لضمان عدم الكشف عن أعضائها. في هذه الحالات، يكون هناك تخطيط مسبق لتعطيل هذه الأنظمة كجزء من عملية تنفيذ الجريمة أو بعدها مباشرة. يتطلب ذلك جهوداً استخباراتية كبيرة لمكافحة مثل هذه الشبكات. كما أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد وجوه مزيفة أو التلاعب بالصور يمكن أن يكون جزءاً من هذه الدوافع الإجرامية لتعقيد عملية التعرف.

الدوافع غير المشروعة الأخرى

إلى جانب الدوافع الإجرامية الصريحة، قد توجد دوافع أخرى غير مشروعة لتعطيل هذه البرامج، وإن لم تكن مرتبطة بجريمة أصلية مباشرة. قد يقوم أفراد أو مجموعات بهذا الفعل بهدف إثبات نقطة معينة حول خصوصية البيانات، أو التعبير عن اعتراض على استخدام هذه التقنيات من قبل الدولة. على الرغم من أن هذه الدوافع قد تبدو “غير إجرامية” في نيتها الأصلية، إلا أن الفعل نفسه يظل غير قانوني ويعوق عمل جهات إنفاذ القانون. قد يكون الهدف هو إحداث فوضى أو لفت الانتباه إلى قضية معينة، لكن الوسيلة المستخدمة هي جريمة يعاقب عليها القانون.

يمكن أن تشمل هذه الدوافع أيضاً المنافسة غير الشريفة بين الشركات، حيث تحاول إحدى الشركات تعطيل أنظمة منافسيها للتسبب في خسائر أو إحراج. في بعض الحالات، قد يكون التعطيل نتيجة لعملية اختراق لمجرد إثبات القدرة التقنية للمخترق (الهاكر) دون وجود دافع إجرامي واضح، لكن هذا لا يلغي الصفة الجرمية للفعل. من المهم التمييز بين هذه الدوافع لتحديد مدى الخطورة والتصرف القانوني المناسب، مع الأخذ في الاعتبار أن جميع هذه الأفعال تشكل انتهاكاً للقانون وتتطلب استجابة حاسمة.

طرق الكشف عن تعطيل برامج التعرف على الوجوه والتحقيق فيها

الجانب الفني للكشف

يتطلب الكشف عن تعطيل برامج التعرف على الوجوه خبرة فنية متخصصة. يشمل ذلك تحليل السجلات (Logs) الخاصة بالأنظمة الأمنية وكاميرات المراقبة، والتي قد تظهر علامات غير طبيعية مثل انقطاع مفاجئ في التسجيل، أو ظهور بيانات تالفة، أو محاولات وصول غير مصرح بها. يمكن أيضاً استخدام تقنيات الطب الشرعي الرقمي لفحص الأجهزة المتصلة بالشبكة، مثل أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف الذكية، بحثاً عن برامج ضارة، أو أدوات تعطيل، أو آثار لعمليات اختراق. فحص الفيديوهات والصور بحثاً عن تشوهات أو علامات تلاعب بتقنيات الذكاء الاصطناعي (Deepfake detection) يُعد أيضاً جزءاً أساسياً من عملية الكشف.

تعتمد هذه الطرق على تحليل البيانات الوصفية (Metadata) للصور والفيديوهات لتحديد ما إذا تم التلاعب بها. كما أن مقارنة الصور الملتقطة مع قواعد بيانات معروفة أو صور سابقة يمكن أن يكشف عن محاولات التزييف. استخدام أدوات تحليل الشبكات يمكن أن يكشف عن حركة مرور غير عادية أو هجمات رفض الخدمة (DoS) التي قد تكون سبباً في تعطيل الأنظمة. من الضروري وجود فرق متخصصة في الأمن السيبراني والتحقيق الجنائي الرقمي للتعامل مع هذه التحديات الفنية المعقدة، وتطوير أدوات وتقنيات كشف متقدمة لمواكبة التطور المستمر في أساليب الاختراق والتعطيل.

الجانب الإجرائي للتحقيق

يبدأ التحقيق الإجرائي بتأمين مسرح الجريمة الرقمي والمادي لضمان عدم العبث بالأدلة. يشمل ذلك التحفظ على الأجهزة الإلكترونية ذات الصلة، وفصلها عن الشبكة إن أمكن، وجمع أي أدلة مادية قد تشير إلى محاولة التعطيل. تتولى النيابة العامة التحقيق، بالتعاون مع خبراء الأدلة الجنائية الرقمية. يتم استجواب الشهود والمشتبه بهم، وجمع الأقوال التي قد تكشف عن تفاصيل حول كيفية التعطيل والهدف منه. يتطلب الأمر إصدار أوامر قضائية بتفتيش الأماكن والتحفظ على البيانات، لضمان قانونية الإجراءات وعدم بطلان الأدلة.

يجب أن يركز التحقيق على ربط الأدلة الرقمية بالشخص أو الجهة التي قامت بالتعطيل. يتضمن ذلك تتبع عنوان IP، وتحليل رسائل البريد الإلكتروني، وفحص سجلات المكالمات، وأي بيانات أخرى قد تقود إلى تحديد هوية الجاني. ينبغي توثيق جميع الخطوات والإجراءات بدقة لضمان سلامة الأدلة وقبولها أمام المحكمة. التدريب المستمر لأعضاء النيابة والقضاة على التعامل مع الأدلة الرقمية وأساليب جمعها وتقديمها أمر حيوي لنجاح هذه التحقيقات. كما يجب إشراك خبراء متخصصين في الذكاء الاصطناعي لتقديم استشارات فنية دقيقة حول طبيعة الهجوم وأثره.

دور الأدلة الرقمية والخبراء

تُعد الأدلة الرقمية هي العمود الفقري في قضايا تعطيل برامج التعرف على الوجوه. تشمل هذه الأدلة سجلات الدخول والخروج، بيانات الشبكة، الصور والفيديوهات المتلاعب بها، البرامج الضارة المستخدمة، وأي بيانات مخزنة على الأجهزة الإلكترونية. يجب أن يتم جمع هذه الأدلة وتوثيقها وفقاً لمعايير الطب الشرعي الرقمي لضمان عدم تلوثها أو فقدانها. يلعب خبراء الأدلة الرقمية دوراً حاسماً في تحليل هذه البيانات واستخلاص النتائج التي يمكن الاستناد إليها في المحاكمة. يقومون بتحديد الثغرات التي تم استغلالها، والأدوات المستخدمة في التعطيل، والمسار الزمني للحدث.

يجب على هؤلاء الخبراء تقديم تقارير فنية مفصلة ومفهومة للجهات القضائية، مع القدرة على شرح الجوانب التقنية المعقدة بطريقة مبسطة. كما قد يُطلب منهم الشهادة أمام المحكمة لتوضيح طبيعة الأدلة الرقمية وكيفية التوصل إليها. من الضروري أن يكون الخبراء معتمدين ولديهم مؤهلات عالية في مجال الأمن السيبراني والطب الشرعي الرقمي لضمان مصداقية خبراتهم. التعاون الوثيق بين المحققين والقضاة والخبراء الفنيين هو مفتاح النجاح في التعامل مع هذه الجرائم المعقدة، وتقديم الجناة للعدالة.

سبل المواجهة والحد من هذه الجريمة

الإجراءات الوقائية والتوعية

تتطلب مواجهة جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه اتخاذ إجراءات وقائية قوية. يشمل ذلك تحديث الأنظمة الأمنية وبرامج التعرف على الوجوه بانتظام لسد الثغرات الأمنية المعروفة. يجب تطبيق بروتوكولات أمنية صارمة، مثل استخدام كلمات مرور قوية ومتعددة العوامل، وتشفير البيانات الحساسة. كما ينبغي إجراء تدريبات دورية للموظفين المعنيين على أمن المعلومات وكيفية التعرف على محاولات الاختراق أو التلاعب. التوعية العامة بخطورة هذه الجرائم وأثرها على سير العدالة تُعد خطوة أساسية لتعزيز الوعي المجتمعي.

يمكن أن تشمل الإجراءات الوقائية أيضاً تركيب أنظمة مراقبة احتياطية أو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الأنشطة المشبوهة في الوقت الحقيقي. يجب أن تكون هناك خطط استجابة سريعة للحوادث الأمنية لتقليل الأضرار في حال وقوع هجوم. تعزيز ثقافة الأمن السيبراني داخل المؤسسات الحكومية والخاصة التي تستخدم هذه التقنيات هو أمر حيوي للحد من تعرضها لمثل هذه الهجمات. التوعية القانونية بالمخاطر والعقوبات المترتبة على هذه الجرائم يمكن أن تكون رادعاً فعالاً للمعتدين المحتملين.

تعزيز القدرات الفنية والقانونية

لضمان مواجهة فعالة، يجب تعزيز القدرات الفنية والقانونية لجهات إنفاذ القانون والنيابة العامة. يشمل ذلك تدريب المحققين والقضاة على أحدث التقنيات المستخدمة في الجرائم الإلكترونية، وكيفية التعامل مع الأدلة الرقمية بشكل قانوني وفعال. يتطلب الأمر الاستثمار في المعدات والأدوات التكنولوجية المتقدمة التي تساعد في جمع وتحليل الأدلة الرقمية. يجب أن تكون هناك أقسام متخصصة داخل الشرطة والنيابة العامة للتعامل مع جرائم تقنية المعلومات، تضم خبراء في الأمن السيبراني والطب الشرعي الرقمي.

كذلك، ينبغي مراجعة التشريعات القائمة وتعديلها أو سن قوانين جديدة لتشمل الأشكال المستجدة من الجرائم الإلكترونية بشكل صريح، بما في ذلك جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه. هذا يضمن وجود إطار قانوني واضح وصريح لتكييف هذه الأفعال وتحديد العقوبات المناسبة لها. بناء قدرات داخلية قوية في مجال الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة أمر ضروري لفهم أبعاد هذه الجرائم ومواجهتها بكفاءة، وتقديم حلول تقنية وقانونية تتوافق مع التطورات السريعة في هذا المجال.

التعاون الدولي وتبادل المعلومات

نظراً للطبيعة العابرة للحدود للجرائم الإلكترونية، فإن التعاون الدولي وتبادل المعلومات بين الدول يُعد أمراً بالغ الأهمية لمواجهة جريمة تعطيل برامج التعرف على الوجوه. يمكن للمجرمين العمل من أي مكان في العالم، مما يجعل الملاحقة القضائية صعبة بدون تعاون دولي. يشمل هذا التعاون تبادل الخبرات والمعلومات حول أساليب التعطيل الجديدة، وتتبع الجناة عبر الحدود، وتسليم المتهمين. يمكن إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لتعزيز هذا التعاون وتسهيل الإجراءات القانونية.

الاشتراك في المنظمات الدولية المتخصصة في مكافحة الجريمة الإلكترونية، مثل الإنتربول، يتيح للدول الاستفادة من شبكات المعلومات والخبرات المتاحة. تبادل أفضل الممارسات في مجال الطب الشرعي الرقمي والقوانين المنظمة للجرائم الإلكترونية يسهم في توحيد الجهود لمكافحة هذه الظاهرة. يجب على الدول العمل معاً لإنشاء آليات فعالة للتعاون القضائي في القضايا العابرة للحدود، لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب بسبب التعقيدات الجغرافية والقانونية، وتعزيز الأمن السيبراني على مستوى عالمي لمواجهة هذه التحديات المشتركة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock