الإجراءات القانونيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

التحرش اللفظي في الأماكن العامة: التجريم

التحرش اللفظي في الأماكن العامة: التجريم

فهم الجريمة، حماية الضحايا، وسبل المواجهة القانونية

يُعد التحرش اللفظي في الأماكن العامة ظاهرة مجتمعية خطيرة تؤثر سلبًا على الأمن الشخصي والراحة النفسية للأفراد. تتقاطع هذه الظاهرة مع قيم المجتمع ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية، مما يستدعي تدخلًا قانونيًا صارمًا لمكافحتها. هذا المقال يسلط الضوء على مفهوم التحرش اللفظي من منظور القانون المصري، موضحًا آليات التجريم والعقوبات المقررة، ويقدم حلولًا عملية للضحايا لمواجهة هذه الجريمة، بالإضافة إلى سبل الوقاية والتوعية المجتمعية.

تعريف التحرش اللفظي وتجلياته

مفهوم التحرش اللفظي قانونيًا واجتماعيًا

التحرش اللفظي في الأماكن العامة: التجريميُعرف التحرش اللفظي بأنه أي قول أو إشارة تحمل إيحاءات جنسية أو مسيئة، أو كلمات نابية، أو تعليقات غير مرغوب فيها، تُوجه إلى شخص آخر في مكان عام وتسبب له الضيق أو الإحراج أو الخوف. يركز التعريف القانوني على العنصر الإجرامي المتمثل في الإيحاءات الجنسية أو العنصرية التي تنتهك حرمة الجسد أو الخصوصية، بينما يتسع المفهوم الاجتماعي ليشمل أي سلوك قولي يُحدث إزعاجًا ويخل بالآداب العامة ويُصنف ضمن المضايقات. يمثل هذا التمييز جوهر الفهم الشامل لهذه الجريمة.

أشكال التحرش اللفظي الشائعة في الأماكن العامة

تتعدد أشكال التحرش اللفظي التي يمكن أن يتعرض لها الأفراد في الأماكن العامة. من أبرز هذه الأشكال توجيه عبارات التغزل غير المرغوبة، أو التعليقات على المظهر الجسدي بإيحاءات جنسية، أو إطلاق الصافرات والأصوات المزعجة، أو ترديد الألفاظ البذيئة. كذلك، قد يتضمن التحرش اللفظي توجيه الأسئلة الشخصية الفاضحة أو عرض خدمات غير لائقة، أو حتى استخدام الشتائم والسباب المرتبطة بالجنس. تظهر هذه الأشكال غالبًا في الشوارع، وسائل النقل العام، الأسواق، وحتى أماكن العمل والمرافق الترفيهية. هذه الأفعال تُحدث ضررًا نفسيًا كبيرًا للمتلقي وتُخل بسلامته العامة.

الإطار القانوني لتجريم التحرش اللفظي في مصر

المواد القانونية ذات الصلة في قانون العقوبات

للتصدي لظاهرة التحرش اللفظي، نص القانون المصري على مواد واضحة تجرم هذا الفعل. يعد القانون رقم 58 لسنة 1937 الخاص بقانون العقوبات، وتعديلاته اللاحقة، الإطار الأساسي لذلك. جاءت التعديلات الأخيرة لتعزيز حماية ضحايا التحرش، حيث نصت المادة 306 مكرر أ من قانون العقوبات على تعريف واضح للتحرش وتجريم أفعاله. تشمل هذه المادة أي قول أو فعل أو إشارة ذات طبيعة جنسية أو إباحية تُوجه إلى الغير، سواء بالإيماء أو بالقول، وتُسبب له إزعاجًا أو مضايقة. هذه المواد القانونية تشكل حجر الزاوية في ملاحقة المتحرشين.

التعديلات التشريعية لتعزيز الحماية

شهد القانون المصري عدة تعديلات تشريعية لتعزيز حماية ضحايا التحرش، خاصة في سياق التحرش اللفظي. كان آخرها القانون رقم 141 لسنة 2021 الذي شدد العقوبات وأضاف تعريفًا أكثر شمولًا للتحرش. تهدف هذه التعديلات إلى سد الثغرات القانونية وتوفير حماية أوسع للضحايا، مع التأكيد على مسؤولية الدولة في مكافحة هذه الظاهرة. كما تناولت التعديلات حالات التحرش المتكرر أو الذي يتم من خلال وسائل الاتصال الحديثة، مما يعكس تطور النظرة القانونية لتشمل كافة أشكال التحرش في ظل التطور التكنولوجي. هذه الخطوات التشريعية تعزز الردع العام.

عقوبات التحرش اللفظي

تختلف عقوبات التحرش اللفظي في القانون المصري بناءً على ظروف الواقعة ومدى جسامتها وتكرارها. في الحالات العادية، قد تتراوح العقوبات بين الحبس والغرامة، وقد تصل مدة الحبس إلى ستة أشهر والغرامة إلى عشرة آلاف جنيه مصري، أو إحدى هاتين العقوبتين. وتشدد العقوبات في حال تكرار الفعل، أو إذا كان الجاني من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة وظيفية أو أسرية عليها، أو إذا كان الجاني يحمل سلاحًا. في هذه الحالات المشددة، يمكن أن تصل العقوبة إلى الحبس سنتين والغرامة خمسين ألف جنيه. هذا التشديد يهدف إلى ردع المتحرشين وتوفير حماية أكبر للمجتمع.

خطوات عملية للإبلاغ عن جريمة التحرش اللفظي

توثيق الواقعة وجمع الأدلة

تُعد خطوة توثيق الواقعة وجمع الأدلة حاسمة قبل الإبلاغ عن جريمة التحرش اللفظي. يجب على الضحية محاولة تذكر تفاصيل دقيقة حول الواقعة، مثل الزمان والمكان، وصف المتحرش ومميزاته الجسدية، والكلمات التي تفوه بها أو الأفعال التي ارتكبها. يُفضل تسجيل أي شهادات لشهود عيان إن وجدت، أو محاولة التقاط صور أو مقاطع فيديو خفية إذا كان ذلك ممكنًا وآمنًا. كذلك، يمكن الاحتفاظ برسائل نصية أو تسجيلات صوتية إذا كان التحرش عبر الهاتف أو وسائل التواصل. هذه الأدلة تعزز موقف الضحية أمام الجهات القضائية وتسهل إجراءات التحقيق.

الإبلاغ الفوري: الأماكن والجهات المختصة

بعد توثيق الواقعة، يجب على الضحية الإبلاغ عنها فورًا. يمكن ذلك بعدة طرق. أولًا، التوجه إلى أقرب قسم شرطة لتقديم محضر رسمي بالواقعة. ثانيًا، الاتصال بالخط الساخن للمجلس القومي للمرأة (15115)، والذي يقدم الدعم والمشورة ويُساعد في توجيه الضحايا للجهات المختصة. ثالثًا، يمكن الإبلاغ عبر تطبيق “مكافحة التحرش” أو المنصات الرقمية المخصصة لذلك في بعض المدن الكبرى. يجب تقديم كافة المعلومات والأدلة التي تم جمعها لضمان سير الإجراءات بشكل فعال. الإبلاغ الفوري يساعد في سرعة ضبط الجاني وجمع المزيد من الأدلة.

دور النيابة العامة في التحقيق

تلعب النيابة العامة دورًا محوريًا في التحقيق في جرائم التحرش اللفظي. فبعد تقديم البلاغ، تتولى النيابة فحص المحضر وسماع أقوال الضحية والشهود، وتطلب تحريات الشرطة حول الواقعة. كما يمكن للنيابة أن تطلب تفريغ كاميرات المراقبة في محيط الحادث إذا توفرت. هدف النيابة هو جمع كافة الأدلة والإثباتات التي تدين المتحرش، أو تنفي التهمة عنه. إذا وجدت النيابة أدلة كافية على ارتكاب الجريمة، تُحيل القضية إلى المحكمة المختصة لمحاكمة الجاني. هذا الدور يضمن تطبيق القانون وحماية حقوق الضحايا، ويُشكل ركيزة أساسية لتحقيق العدالة.

دور المحامي في متابعة القضية

يمكن أن يكون لوجود محامٍ متخصص في قضايا التحرش دور بالغ الأهمية في متابعة القضية. يقوم المحامي بتقديم المشورة القانونية للضحية، ومساعدتها في فهم حقوقها والإجراءات المتبعة. كما يتولى المحامي صياغة البلاغات والشكاوى بشكل قانوني دقيق، ومتابعة التحقيقات مع النيابة العامة، وحضور جلسات المحكمة. يعمل المحامي على تقديم الأدلة بفاعلية، واستجواب الشهود، والدفاع عن حقوق الضحية أمام القضاء، والسعي للحصول على أقصى عقوبة للمتحرش. هذا الدعم القانوني يرفع من فرص نجاح القضية ويخفف العبء النفسي عن الضحية، ويضمن سير الإجراءات بمهنية.

الحصول على الدعم القانوني والنفسي للضحايا

منظمات المجتمع المدني والمبادرات الداعمة

تُقدم العديد من منظمات المجتمع المدني والمبادرات الحقوقية في مصر دعمًا كبيرًا لضحايا التحرش اللفظي. تعمل هذه المنظمات على توفير الدعم القانوني المجاني أو بتكلفة رمزية، وتقدم جلسات استشارة نفسية لمساعدة الضحايا على تجاوز الصدمة النفسية والعواقب السلبية للتحرش. من أمثلة هذه المنظمات “نظرة للدراسات النسوية” و”مؤسسة قضايا المرأة المصرية” وغيرها. تلعب هذه الجهات دورًا حيويًا في تمكين الضحايا وتوفير مساحة آمنة لهم للتحدث وتلقي المساعدة، مما يعزز قدرتهم على مواجهة الجريمة واستعادة حياتهم الطبيعية. البحث عن هذه المنظمات والاتصال بها خطوة هامة نحو التعافي.

أهمية الاستشارة القانونية المتخصصة

تكتسب الاستشارة القانونية المتخصصة أهمية بالغة في حالات التحرش اللفظي. فالمحامي المتخصص في قضايا العنف ضد المرأة أو القضايا الجنائية لديه فهم عميق للقوانين والإجراءات المتبعة، مما يمكنه من تقديم أفضل النصائح للضحية. يستطيع المحامي تقييم مدى قوة الأدلة المتاحة، وتحديد أنسب السبل القانونية للمضي قدمًا، سواء برفع دعوى جنائية أو المطالبة بتعويض مدني. كما يقوم بتمثيل الضحية أمام الجهات القضائية، وتقديم الحجج القانونية اللازمة. الحصول على استشارة مبكرة يضمن اتخاذ الخطوات الصحيحة ويزيد من فرص تحقيق العدالة، ويجنب الضحية الأخطاء الإجرائية.

الوقاية من التحرش اللفظي وتوعية المجتمع

دور الأفراد والمؤسسات في نشر الوعي

تتطلب مكافحة التحرش اللفظي جهدًا مجتمعيًا متكاملًا، يشارك فيه الأفراد والمؤسسات. يمكن للأفراد المساهمة في نشر الوعي من خلال رفض السلوك المتحرش، والتحدث عنه علنًا، ودعم الضحايا. أما المؤسسات، مثل المدارس والجامعات، فعليها إدراج برامج توعية حول التحرش، وكيفية التعامل معه، والتعريف بالقوانين والعقوبات. كذلك، يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تلعب دورًا فعالًا في تسليط الضوء على هذه الظاهرة وتقديم نماذج إيجابية للسلوك في الأماكن العامة. تضافر هذه الجهود يخلق بيئة أكثر أمانًا ويدعم ثقافة احترام الآخر ورفض كافة أشكال التحرش.

استراتيجيات الرد الفعال على المتحرش

عند التعرض للتحرش اللفظي، يمكن للضحية اتباع عدة استراتيجيات للرد بفاعلية. أولًا، الرد الحاسم والصارم على المتحرش بصوت واضح وواثق، مطالبة إياه بالتوقف. ثانيًا، طلب المساعدة من المتواجدين حولها، فدعم المارة يقلل من فرصة استمرار المتحرش في فعلته. ثالثًا، التجاهل التام ومواصلة السير، إذا كان الرد المباشر قد يعرض الضحية لمزيد من الخطر. رابعًا، الابتعاد عن المكان فورًا والتوجه إلى مكان آمن. خامسًا، الإبلاغ الفوري عن الواقعة للجهات المختصة، كما ذُكر سابقًا. كل هذه الاستراتيجيات تهدف إلى حماية الضحية وكسر حاجز الخوف، وتوضيح أن التحرش غير مقبول. هذه الطرق يجب أن تُستخدم بحكمة بناءً على تقدير الضحية للموقف لضمان سلامتها أولًا.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock