الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

الجرائم الماسة بالأمن القومي وفقًا للقانون 175

الجرائم الماسة بالأمن القومي وفقًا للقانون 175 لسنة 2018

دور التشريعات المصرية في مكافحة التهديدات السيبرانية لاستقرار الوطن

يشهد العالم تحولًا رقميًا متسارعًا يلامس كافة جوانب الحياة، مما خلق فرصًا هائلة للتطور لكنه في المقابل فتح أبوابًا جديدة لأنماط من الجرائم تستهدف الأمن القومي للدول. باتت التهديدات السيبرانية تشكل خطرًا حقيقيًا على استقرار المجتمعات وسيادة الدول، وتتطلب استجابة تشريعية قوية. في مصر، يعد القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات أداة محورية لمواجهة هذه التحديات. يهدف هذا القانون إلى تحديد الأفعال الإجرامية في الفضاء السيبراني ووضع الأطر القانونية اللازمة للتصدي لها، خاصة تلك التي تمس صميم أمن البلاد. سنتناول في هذا المقال الجرائم الماسة بالأمن القومي التي يعالجها هذا القانون، وكيفية التصدي لها بفعالية.

مفهوم الأمن القومي في سياق الجرائم الإلكترونية

تعريف الأمن القومي في العصر الرقمي

الجرائم الماسة بالأمن القومي وفقًا للقانون 175لم يعد مفهوم الأمن القومي مقتصرًا على الأبعاد التقليدية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية فقط، بل امتد ليشمل البعد الرقمي والسيبراني. يشمل الأمن القومي في العصر الرقمي حماية البنية التحتية الحيوية للبلاد، مثل شبكات الكهرباء والاتصالات والبنوك، من أي اختراقات أو هجمات إلكترونية. كما يتضمن حماية البيانات والمعلومات الحساسة للدولة ومواطنيها من التسريب أو التلاعب. إن القدرة على تأمين الفضاء السيبراني للدولة باتت جزءًا لا يتجزأ من قدرتها على حماية كيانها ووجودها. أي مساس بهذه المكونات الرقمية يعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي يتطلب استجابة فورية.

التهديدات السيبرانية على الأمن القومي

تتعدد صور التهديدات السيبرانية التي تستهدف الأمن القومي، فمنها ما يتعلق بالتجسس الإلكتروني الذي يهدف إلى سرقة معلومات عسكرية أو سياسية أو اقتصادية حساسة. هناك أيضًا الهجمات التخريبية التي تستهدف تعطيل أو تدمير أنظمة وشبكات حيوية، مما قد يؤدي إلى شلل في الخدمات الأساسية للدولة. ولا يمكن إغفال حملات التضليل ونشر الشائعات والأخبار الكاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، والتي تهدف إلى إثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار الداخلي والمساس بالروح المعنوية للمواطنين، مما يؤثر سلبًا على الأمن المجتمعي والوطني بشكل عام.

العلاقة بين القانون 175 وحماية الأمن القومي

جاء القانون رقم 175 لسنة 2018 لمكافحة جرائم تقنية المعلومات ليملأ الفراغ التشريعي في مواجهة الجرائم التي تتم عبر الوسائط الرقمية. هذا القانون يضع تعريفات دقيقة للجرائم الإلكترونية، ويحدد العقوبات الرادعة لها، ويقدم آليات للتحقيق وجمع الأدلة الرقمية. إنه يوفر الإطار القانوني اللازم للجهات الأمنية والقضائية للتصدي للتهديدات السيبرانية، خاصة تلك التي تستهدف البنية التحتية المعلوماتية للدولة، أو تهدف إلى نشر معلومات مغلوطة تهدد السلامة العامة والأمن. القانون يعزز قدرة الدولة على الحفاظ على سيادتها في الفضاء الرقمي وحماية مواطنيها من الأخطار المتزايدة لهذه الجرائم.

أنواع الجرائم الماسة بالأمن القومي في القانون 175

جرائم التخابر باستخدام أنظمة المعلومات

يتناول القانون 175 لسنة 2018 بشكل صريح جرائم التخابر التي تتم عبر استخدام أنظمة وتقنيات المعلومات. فالمادتان (18) و (19) من القانون، على سبيل المثال، تجرمان الدخول غير المشروع أو الاعتراض غير المشروع لبيانات أو معلومات حكومية أو خاصة باستخدام وسيلة تقنية معلومات، إذا كان الغرض من ذلك التخابر لحساب دولة أجنبية أو تنظيم إرهابي. هذه الجرائم تشكل تهديدًا مباشرًا للمعلومات السرية التي قد تؤثر على الأمن القومي، وتضع عقوبات مشددة على كل من يشارك في مثل هذه الأفعال، سواء كان الفاعل الأصلي أو الشريك أو المحرض، وتهدف إلى حماية أسرار الدولة من التسريب.

المساس بسلامة شبكات المعلومات والبنية التحتية الحرجة

يولي القانون 175 اهتمامًا خاصًا بحماية البنية التحتية الحرجة للدولة. فالمادتان (12) و (13) تجرمان الدخول غير المصرح به أو الاعتراض غير المشروع لشبكات أو أنظمة معلومات خاصة بالدولة أو البنوك أو الشركات التي تقدم خدمات حيوية. يشمل ذلك الهجمات التي تهدف إلى تعطيل أو تدمير هذه الأنظمة، مما قد يؤدي إلى شلل في الخدمات العامة مثل الكهرباء، الاتصالات، أو القطاع المالي. هذه الجرائم تعد من أخطر التهديدات على الأمن القومي، حيث يمكن أن تتسبب في فوضى عارمة وخسائر اقتصادية فادحة، ولهذا يفرض القانون عقوبات صارمة على مرتكبيها.

جرائم نشر الأخبار الكاذبة أو المعلومات المضللة

أصبح نشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة عبر المنصات الرقمية أحد أهم التحديات التي تواجه الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي. تناولت المادة (26) من القانون 175 هذا النوع من الجرائم، حيث تجرم كل من يتعمد استخدام حساب شخصي أو موقع إلكتروني لنشر معلومات كاذبة أو شائعات أو صور زائفة من شأنها تكدير السلم العام أو إلحاق الضرر بالأمن القومي. هذه الممارسات تهدف إلى تضليل الرأي العام، وإثارة الفتنة، والتأثير على السياسات الوطنية، مما يستدعي تدخلًا قانونيًا سريعًا وحاسمًا لحماية المجتمع من آثارها المدمرة والخطيرة على وحدة وتماسك النسيج الوطني.

غسل الأموال وتمويل الإرهاب إلكترونياً

على الرغم من أن القانون 175 ليس هو القانون الرئيسي لمكافحة غسل الأموال أو تمويل الإرهاب، إلا أنه يتكامل مع التشريعات الأخرى في هذا الصدد. ينص القانون على عقوبات لكل من يستخدم أنظمة أو شبكات المعلومات في ارتكاب جرائم غسل الأموال أو تمويل الإرهاب، وذلك في المواد التي تتناول استخدام التكنولوجيا في الجرائم المنظمة. إن تسهيل التحويلات المالية غير المشروعة أو استخدام العملات الرقمية لتمويل الأنشطة الإرهابية عبر الفضاء السيبراني يمثل تهديدًا خطيرًا للأمن القومي والاقتصادي. ويساهم القانون في سد الثغرات التي قد تستغلها التنظيمات الإرهابية في أنشطتها التخريبية.

آليات التحقيق والملاحقة القضائية بموجب القانون 175

دور النيابة العامة والأجهزة الأمنية المتخصصة

تضطلع النيابة العامة بدور محوري في التحقيق في الجرائم الماسة بالأمن القومي التي تقع عبر تقنية المعلومات. يمنح القانون 175 للنيابة العامة صلاحيات واسعة في جمع الأدلة الرقمية، مثل تتبع الاتصالات، وفحص الأجهزة الإلكترونية، والتحفظ على البيانات، والتعاون مع جهات إنفاذ القانون الدولية. كما يتطلب القانون وجود أجهزة أمنية متخصصة ذات كفاءة عالية في مجال الأدلة الجنائية الرقمية والتحقيقات السيبرانية. هذه الفرق المدربة تتعاون بشكل وثيق مع النيابة لفك شفرات الجرائم المعقدة، وتحديد هويات الجناة، وتقديم الأدلة القوية التي تدينهم أمام المحاكم المختصة، مما يضمن سير العدالة.

الاختصاص القضائي وتطبيق العقوبات

يحدد القانون 175 اختصاص المحاكم التي تنظر في الجرائم الماسة بالأمن القومي عبر تقنية المعلومات. في أغلب الأحوال، تكون المحاكم الجنائية هي الجهة المختصة بنظر هذه القضايا، مع إمكانية إحالتها إلى محاكم أمن الدولة العليا في بعض الحالات التي تمس أمن البلاد بشكل مباشر. يتضمن القانون عقوبات مشددة تتناسب مع جسامة هذه الجرائم، وتتراوح بين السجن لفترات طويلة والغرامات الباهظة، وقد تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام في الجرائم بالغة الخطورة مثل التخابر أو المساس بالسلامة الإقليمية للدولة. تطبيق هذه العقوبات يهدف إلى تحقيق الردع العام والخاص.

التحديات في إثبات الجرائم السيبرانية

على الرغم من قوة القانون، فإن إثبات الجرائم السيبرانية يواجه تحديات كبيرة بسبب طبيعتها المعقدة. أولاً، صعوبة تحديد هوية الجاني الحقيقية، حيث يمكن للمجرمين إخفاء هويتهم باستخدام تقنيات إخفاء الهوية أو الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN). ثانياً، الطبيعة العابرة للحدود لهذه الجرائم، مما يتطلب تعاونًا دوليًا معقدًا وصعبًا. ثالثًا، سرعة التطور التكنولوجي التي تفوق أحيانًا قدرة التشريعات على المواكبة، مما يتطلب تحديثًا مستمرًا للقوانين. رابعًا، الحاجة إلى خبراء فنيين متخصصين لجمع وتحليل الأدلة الرقمية بطريقة سليمة قانونيًا وفنيًا لضمان قبولها في المحاكم.

استراتيجيات الوقاية والتصدي للتهديدات السيبرانية على الأمن القومي

تعزيز الأمن السيبراني للبنية التحتية الحيوية

تعد حماية البنية التحتية الرقمية للدولة خط الدفاع الأول ضد الجرائم الماسة بالأمن القومي. يتطلب ذلك تطبيق أعلى معايير الأمن السيبراني على كافة الشبكات والأنظمة الحكومية والخاصة ذات الأهمية الحيوية. يشمل هذا تحديث البرمجيات بانتظام، وتنفيذ جدران الحماية القوية، واستخدام تقنيات التشفير المتقدمة للبيانات، وتطبيق بروتوكولات المصادقة المتعددة العوامل. كما يجب إجراء اختبارات اختراق دورية وتقييمات للثغرات الأمنية بشكل منتظم لتحديد نقاط الضعف ومعالجتها قبل أن يستغلها المهاجمون، وتدريب الكوادر الفنية على أحدث تقنيات الدفاع السيبراني.

التوعية الرقمية للمواطنين والمؤسسات

لا يقتصر الأمن السيبراني على الجانب التقني فقط، بل يشمل أيضًا العنصر البشري. فغالبًا ما تكون الأخطاء البشرية هي نقطة الضعف التي يستغلها المجرمون. لذا، فإن زيادة الوعي الرقمي للمواطنين والمؤسسات أمر حيوي. يجب تنظيم حملات توعية مكثفة حول مخاطر الجرائم الإلكترونية، وكيفية حماية البيانات الشخصية، وكيفية التعرف على رسائل التصيد الاحتيالي، وأهمية استخدام كلمات مرور قوية. هذه التوعية تهدف إلى بناء مجتمع رقمي واعٍ وقادر على حماية نفسه وبياناته، مما يقلل من فرص نجاح الهجمات التي تستهدف الأمن القومي عبر الأفراد والمؤسسات.

التعاون الدولي في مكافحة الجرائم السيبرانية العابرة للحدود

نظرًا للطبيعة العابرة للحدود للجرائم السيبرانية، فإن التعاون الدولي يصبح ضرورة حتمية. يتوجب على الدول تعزيز تعاونها القضائي والأمني مع بعضها البعض من خلال الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، مثل اتفاقية بودابست بشأن الجريمة السيبرانية. يشمل هذا التعاون تبادل المعلومات حول التهديدات السيبرانية، وتنسيق الجهود في عمليات التحقيق، وتسهيل إجراءات تسليم المجرمين الإلكترونيين. بناء شبكة قوية من التعاون الدولي يساهم في إيجاد حلول شاملة لهذه التحديات العالمية، ويساعد على ملاحقة الجناة بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، مما يعزز الأمن القومي لكل دولة.

التحديث المستمر للتشريعات لمواجهة التطور التكنولوجي

يتطور المشهد التكنولوجي بوتيرة سريعة للغاية، مما يتطلب أن تكون التشريعات القانونية مرنة وقابلة للتكيف. يجب على المشرعين مراجعة القوانين الحالية مثل القانون 175 بشكل دوري وتحديثها لتشمل أشكال الجرائم السيبرانية المستجدة. يشمل ذلك التعامل مع التحديات التي تفرضها التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، البلوك تشين، والواقع الافتراضي. إن مواكبة التطورات التكنولوجية في الإطار القانوني يضمن أن تظل أجهزة إنفاذ القانون مجهزة بالأدوات التشريعية اللازمة لمكافحة الجرائم الماسة بالأمن القومي بفعالية، وحماية مصالح الدولة ومواطنيها في عالم دائم التغير.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock