الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريمحكمة الجنايات

المسؤولية الجنائية عن الفعل السلبي

المسؤولية الجنائية عن الفعل السلبي

متى يعاقب القانون على الامتناع عن الفعل؟ دليل شامل لفهم الجريمة السلبية في القانون المصري

في أذهان الكثيرين، ترتبط الجريمة دائمًا بفعل إيجابي، مثل السرقة أو القتل أو النصب. لكن المشرع الجنائي لم يقصر التجريم على الأفعال الإيجابية فقط، بل امتد ليشمل السلوك السلبي في حالات محددة، وهو ما يعرف بالامتناع. فالفعل السلبي أو الامتناع عن القيام بعمل كان واجبًا على الشخص القيام به، يمكن أن يشكل جريمة كاملة الأركان تستوجب العقاب. هذا المقال يقدم دليلاً عمليًا لفهم حالات وشروط قيام هذه المسؤولية، وكيفية التعامل معها من منظور قانوني دقيق.

ما هي الجريمة السلبية (الامتناع)؟

المسؤولية الجنائية عن الفعل السلبي
الجريمة السلبية هي تلك التي يتخذ فيها الركن المادي للجريمة صورة سلبية، أي الامتناع عن إتيان فعل معين كان القانون يوجب على الشخص إتيانه. لا يعاقب القانون على كل امتناع، بل يقتصر التجريم على الامتناع الذي يخالف واجباً قانونياً أو تعاقدياً محدداً، وكان من شأن هذا الامتناع أن يؤدي إلى نتيجة إجرامية كان الفاعل ملزماً بمنعها. المبدأ العام هو أن القانون لا يفرض على الأفراد واجب التضحية أو البطولة، ولكنه يفرض عليهم في ظروف معينة التزاماً بالتدخل لمنع وقوع ضرر.

تعريف الفعل السلبي في القانون

الفعل السلبي، أو الامتناع، هو إحجام الشخص عن أداء التزام إيجابي يفرضه عليه القانون أو العقد أو حتى سلوكه السابق الذي خلق حالة من الخطر. هذا الالتزام ليس التزاماً أخلاقياً عاماً، بل يجب أن يكون واجباً قانونياً محدداً وواضحاً. فمثلاً، امتناع شخص عادي عن إنقاذ غريق لا يعرفه قد لا يشكل جريمة، بينما امتناع المنقذ المسؤول عن الشاطئ عن إنقاذ نفس الغريق يشكل جريمة، لأن لديه واجباً قانونياً وتعاقدياً بالتدخل لحماية السباحين.

الفرق بين الامتناع المجرد والامتناع الذي يرتب مسؤولية جنائية

ليس كل امتناع جريمة. الامتناع المجرد هو مجرد موقف سلبي لا يرتب القانون عليه أي أثر، كامتناع شخص عن مساعدة جاره في إصلاح سيارته. أما الامتناع الذي يرتب مسؤولية جنائية فهو الذي تتوفر فيه شروط معينة، أهمها وجود واجب قانوني بالعمل. هذا الواجب هو الذي ينقل الامتناع من دائرة المباح إلى دائرة التجريم، ويجعل الممتنع مسؤولاً عن النتيجة الضارة التي ترتبت على امتناعه، وكأنه هو من أحدثها بفعله الإيجابي.

شروط قيام المسؤولية الجنائية عن الامتناع

لكي تقوم المسؤولية الجنائية عن الفعل السلبي، لا يكفي مجرد الامتناع عن فعل، بل يجب أن تتوافر مجموعة من الشروط الدقيقة التي حددها الفقه والقضاء. هذه الشروط هي التي تمثل أركان الجريمة السلبية، وبدون توافرها مجتمعة لا يمكن مساءلة الشخص جنائياً عن امتناعه. فهم هذه الشروط هو المفتاح الأساسي لتحديد ما إذا كان الموقف يمثل جريمة أم لا، وهو ما يساعد في بناء الدفاع أو الادعاء في القضايا المتعلقة بهذا النوع من الجرائم.

وجود واجب قانوني أو تعاقدي بالتدخل

هذا هو الشرط الجوهري. يجب أن يكون هناك مصدر يلزم الشخص بالقيام بالفعل الذي امتنع عنه. مصادر هذا الواجب متعددة، فقد يكون مصدره نصاً قانونياً مباشراً، كواجب الأم في رعاية طفلها، أو واجب كل شخص في الإبلاغ عن جريمة يعلم بوقوعها. وقد يكون مصدره العقد، كواجب الحارس الليلي في حماية المنشأة، أو واجب الطبيب في إسعاف المريض. كما قد ينشأ الواجب عن سلوك سابق للشخص، كمن يحفر حفرة في الطريق فيلتزم بوضع علامات تحذيرية لتنبيه المارة.

القدرة على أداء الواجب المطلوب

لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذا المبدأ ينطبق في القانون الجنائي. لكي تتم مساءلة الشخص عن امتناعه، يجب أن يكون قادراً على أداء الفعل الذي كان واجباً عليه. فإذا كان الطبيب نفسه مصاباً بإعياء شديد يمنعه من إسعاف المريض، تنتفي مسؤوليته. وإذا كان المنقذ لا يجيد السباحة في بحر هائج، لا يمكن معاقبته على عدم إنقاذ الغريق. القدرة هنا تشمل القدرة المادية والجسدية والنفسية، ويتم تقديرها وفقاً لظروف كل حالة على حدة.

العلاقة السببية بين الامتناع والنتيجة الإجرامية

يجب إثبات أن النتيجة الضارة (مثل الوفاة أو الإصابة) قد حدثت بسبب امتناع المتهم عن التدخل. بمعنى آخر، لو أن المتهم قام بواجبه وتدخل، لكانت النتيجة الإجرامية قد مُنعت على الأرجح. العلاقة السببية هنا تكون افتراضية، حيث يفترض القاضي حدوث الفعل الإيجابي الذي كان واجباً، ثم يرى ما إذا كان سيمنع النتيجة أم لا. إذا ثبت أن النتيجة كانت ستقع حتماً حتى لو تدخل الشخص، تنتفي علاقة السببية وبالتالي تنتفي المسؤولية الجنائية.

أمثلة عملية من الواقع والقانون المصري

لفهم أعمق للمسؤولية الجنائية عن الامتناع، من المفيد استعراض أمثلة واقعية توضح كيف يطبق القضاء هذه المبادئ. هذه الأمثلة تترجم النصوص القانونية المجردة إلى مواقف حياتية ملموسة، وتساعد في التمييز بين الحالات التي يعاقب عليها القانون وتلك التي لا تدخل في نطاق التجريم. كل مثال من هذه الأمثلة يسلط الضوء على مصدر مختلف من مصادر الالتزام بالعمل.

امتناع الأم عن إطعام رضيعها

هذا هو المثال الكلاسيكي للجريمة السلبية. واجب الأم في رعاية وإطعام وليدها هو واجب يفرضه القانون الطبيعي وقانون الأحوال الشخصية بشكل مباشر. فإذا امتنعت عمداً عن إطعامه مما أدى إلى وفاته، فإنها تسأل عن جريمة قتل عمدي عن طريق الامتناع. هنا، مصدر الواجب هو القانون، وكانت قادرة على إطعامه، وامتناعها هو السبب المباشر في حدوث الوفاة.

امتناع الطبيب عن إسعاف مريض في حالة خطرة

يلتزم الطبيب بموجب مهنته وعقده مع المستشفى أو المريض بتقديم الرعاية الطبية اللازمة. إذا وصل إليه مريض في حالة طوارئ تستدعي تدخلاً عاجلاً، فامتنع عن إسعافه دون مبرر مشروع، مما أدى إلى وفاة المريض أو تفاقم حالته، فإنه يسأل جنائياً. مصدر الواجب هنا هو العقد وقانون تنظيم مهنة الطب.

امتناع حارس السجن عن منع اعتداء على سجين

حارس السجن ملزم بموجب وظيفته (مصدر تعاقدي وقانوني) بحماية السجناء والحفاظ على سلامتهم. فإذا شاهد اعتداء يقع على أحد السجناء من سجين آخر وكان قادراً على التدخل لمنعه، ولكنه امتنع عن ذلك، فإنه يعتبر شريكاً في جريمة الاعتداء عن طريق الامتناع، لأنه أخل بواجب إيجابي تفرضه عليه وظيفته.

خطوات عملية لإثبات أو نفي المسؤولية عن الفعل السلبي

في ساحة القضاء، يتحول النقاش النظري حول شروط المسؤولية إلى معركة قانونية لإثبات الأدلة أو دحضها. سواء كنت تمثل الادعاء أو الدفاع، فإن فهم الخطوات العملية لإثبات أركان الجريمة أو نفيها هو أمر حاسم للوصول إلى حكم عادل.

بالنسبة للمجني عليه أو الادعاء: كيفية إثبات أركان الجريمة

يجب على النيابة العامة أو المدعي بالحق المدني التركيز على إثبات ثلاثة عناصر أساسية. أولاً، إثبات وجود الواجب القانوني المحدد من خلال تقديم نصوص القانون أو العقود أو إثبات السلوك السابق الذي أنشأ الواجب. ثانياً، إثبات قدرة المتهم على أداء الواجب من خلال شهادة الشهود أو الظروف المحيطة. ثالثاً، وهو الأهم، إثبات العلاقة السببية من خلال تقارير الطب الشرعي أو الخبراء التي تؤكد أن تدخل المتهم كان سيمنع وقوع النتيجة الضارة.

بالنسبة للمتهم: كيفية الدفع بانتفاء المسؤولية

يرتكز دفاع المتهم على هدم أحد أركان الجريمة. يمكن الدفع بعدم وجود واجب قانوني أصلاً، كأن يثبت أن العقد لا يشمل هذا النوع من الالتزام. أو يمكن الدفع باستحالة أداء الواجب، كإثبات وجود قوة قاهرة أو ظرف طارئ منعه من التدخل. وأخيراً، يمكن قطع علاقة السببية، من خلال إثبات أن النتيجة كانت ستقع في كل الأحوال حتى لو تدخل، أو أن هناك سبباً آخر أجنبياً هو الذي أدى إلى وقوعها.

خلاصة وتوصيات قانونية

إن المسؤولية الجنائية عن الفعل السلبي هي من أدق مسائل القانون الجنائي، حيث تعاقب الشخص ليس على ما فعله، بل على ما كان يجب عليه أن يفعله ولم يفعله. إن فهم مصادر الواجب القانوني وشروط قيام هذه المسؤولية ليس مهماً للمحامين والقضاة فقط، بل لكل فرد في المجتمع ليعرف حدود واجباته القانونية تجاه الآخرين. في أي حالة ينشأ فيها شك حول وجود التزام قانوني، فإن الاستشارة القانونية المتخصصة هي أفضل وسيلة لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock