الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

الدفع بأن الأقوال لا تشكل تحريضًا

الدفع بأن الأقوال لا تشكل تحريضًا

استراتيجيات قانونية لتفنيد تهمة التحريض

تُعد جريمة التحريض من الجرائم الخطيرة التي تمس أمن المجتمع، إلا أن الفهم الدقيق لطبيعة الأقوال وما إذا كانت ترقى لمستوى التحريض يتطلب تحليلًا قانونيًا معمقًا. يهدف هذا المقال إلى استعراض الدفوع القانونية وكيفية تقديمها بفعالية لإثبات أن الأقوال المتناولة لا تشكل جريمة تحريض وفقًا للقانون المصري. سنقدم حلولًا عملية وخطوات دقيقة لمواجهة اتهامات التحريض، مع التركيز على الجوانب المختلفة لهذه القضية الحساسة.

الفهم القانوني لجريمة التحريض

تعريف التحريض وأركانه الأساسية

الدفع بأن الأقوال لا تشكل تحريضًايُعرف التحريض قانونًا بأنه دعوة شخص لارتكاب جريمة أو المساهمة فيها، سواء كان ذلك بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو بأي وسيلة أخرى تدل على القصد الجنائي. يستلزم التحريض وجود فعل مادي صادر عن المحرّض يوجه الدعوة لارتكاب الجريمة، وأن يكون هذا الفعل موجهًا لشخص أو أكثر، وأن يكون لديه القدرة على إحداث الأثر المطلوب وهو دفع الفرد لارتكاب الفعل الإجرامي.

يتكون التحريض من ركن مادي يتمثل في السلوك الإيجابي الذي يصدر عن الجاني ويدعو من خلاله غيره إلى ارتكاب الجريمة أو المساهمة فيها. يجب أن يكون هذا السلوك واضحًا وصريحًا في دلالته على الدعوة، وليس مجرد تعبير عن رأي أو فكرة. يشمل الركن المادي جميع الأشكال التي يمكن أن تتخذها الدعوة، مثل الخطابة في التجمعات أو النشر عبر وسائل الإعلام أو حتى الحديث الخاص.

أما الركن المعنوي، فيتمثل في القصد الجنائي الخاص، وهو انصراف إرادة المحرّض إلى دفع شخص آخر لارتكاب الجريمة، مع علمه بأن فعله سيؤدي إلى هذه النتيجة. يجب أن تتجه نية المحرّض إلى إحداث الجريمة محل التحريض، ولا يكفي مجرد العلم بالنتيجة المحتملة. هذا القصد هو ما يميز التحريض الجنائي عن مجرد التعبير عن الرأي أو النقد الاجتماعي الذي قد يتضمن ألفاظًا حادة ولكنه يفتقر إلى نية الإجرام.

التمييز بين التحريض وحرية التعبير

يُعد التمييز بين التحريض وحرية التعبير من التحديات القانونية المعقدة. فبينما يكفل الدستور والقانون الحق في حرية التعبير عن الرأي، تضع القوانين الجنائية قيودًا على هذه الحرية عندما تتجاوز حدودها لتشكل خطرًا على الأمن العام أو تحض على ارتكاب الجرائم. المعيار الفاصل يكمن في وجود القصد الجنائي المتمثل في دعوة صريحة ومباشرة لارتكاب فعل مجرّم.

تتمثل الحدود الفاصلة في تحليل طبيعة الأقوال وسياقها ومداها وأثرها المحتمل. فإذا كانت الأقوال تهدف بشكل مباشر ومقصود إلى دفع الآخرين لارتكاب جريمة، فهي تخرج عن نطاق حرية التعبير وتندرج تحت جريمة التحريض. أما إذا كانت الأقوال مجرد نقد سياسي، أو تعبير عن استياء اجتماعي، أو حتى دعوة لتغيير الأوضاع بطرق سلمية، فإنها تبقى في إطار حرية التعبير المحمية قانونًا، حتى لو كانت قوية في لهجتها.

الدفوع الأساسية لإثبات عدم وجود التحريض

عدم توافر الركن المادي للتحريض

يعتبر الدفع بعدم توافر الركن المادي من أقوى الدفوع في قضايا التحريض. يقوم هذا الدفع على إثبات أن الأقوال المنسوبة للمتهم لا تحمل في طياتها دلالة الدعوة المباشرة والصريحة لارتكاب جريمة. فقد تكون الأقوال غامضة أو تحتمل أكثر من تفسير، أو تكون قد صدرت في سياق لا يدل على نية التحريض، مما ينفي وجود الفعل المادي الذي يشكل جريمة التحريض.

يمكن للمحامي أن يوضح أن الأقوال لم تؤد إلى أي نتيجة إجرامية، أو لم تكن كافية بطبيعتها لإحداث هذه النتيجة. حتى لو كانت الأقوال تحمل بعض السلبية، فإن عدم ترتب أي فعل إجرامي عليها يضعف من اتهام التحريض، خاصة إذا كان التحريض يقتضي إحداث نتيجة معينة كشرط لتجريمها. فالمجرد من القول لا يكفي لتكوين الجريمة في كثير من الأحيان.

يجب على الدفاع تحليل الأقوال المزعومة بدقة لإظهار أن بها غموضًا أو عدم وضوح في القصد منها، وأنها لا تُعد دعوة صريحة ومباشرة لارتكاب جريمة. فقد تكون الأقوال مجرد تعبير عن رأي شخصي، أو تساؤل، أو حتى اقتراح غير ملزم، ولا يمكن تفسيرها بأي حال من الأحوال على أنها تحريض جنائي. هذا يتطلب استعراض السياق الذي قيلت فيه الأقوال بشكل كامل.

انتفاء الركن المعنوي (القصد الجنائي)

يُعد انتفاء القصد الجنائي دفعًا جوهريًا، حيث يرتكز على إثبات أن المتهم لم تكن لديه النية الإجرامية لدفع الآخرين لارتكاب جريمة. فالتحريض جريمة قصدية تتطلب قصدًا خاصًا، ولا يكفي فيها مجرد القصد العام. يمكن للمحامي أن يثبت أن الأقوال صدرت عن حسن نية، أو في سياق تعبير عن رأي أو انتقاد، أو حتى من باب الجهل بالعواقب القانونية المترتبة على الألفاظ.

يمكن للدفاع أن يبرهن أن الأقوال قد صدرت في سياق مختلف تمامًا عن نية التحريض، كأن تكون جزءًا من نقاش فكري، أو تعبيرًا عن رأي شخصي لا يدعو إلى الفعل المباشر، أو حتى في إطار حديث خاص لم يقصد به التأثير على الجمهور العام. إن إثبات أن النية الحقيقية للمتهم لم تكن تحريضية يُضعف الاتهام بشكل كبير ويُبطل أحد أركان الجريمة الأساسية.

في بعض الحالات، يمكن الدفع بأن المتهم كان جاهلًا بالقانون أو بعواقب أقواله، مما ينفي توافر القصد الجنائي الخاص. هذا الدفع يتطلب تحليلًا دقيقًا لشخصية المتهم وخلفيته الثقافية والتعليمية، وكيفية فهمه للموقف والألفاظ التي استخدمها. إثبات عدم وجود نية مسبقة ومقصودة لدفع الآخرين لارتكاب الجريمة هو حجر الزاوية في هذا الدفع.

طرق عملية لتقديم الدفع في المحكمة

تحليل الأقوال وتقديم السياق الكامل

من الضروري تقديم تحليل مفصل للأقوال المنسوبة للمتهم، مع التأكيد على ضرورة تفريغها بشكل كامل ودقيق إذا كانت مسجلة صوتيًا أو مرئيًا. يجب أن يتم عرض الأقوال في سياقها الزمني والمكاني والنفسي الذي قيلت فيه، لإظهار أن ما يبدو تحريضًا في جزئية صغيرة قد يكون جزءًا من حديث أكبر لا يحمل أي نية إجرامية. هذا يتطلب عرض كافة التسجيلات أو المحادثات دون تجزئة.

يجب على الدفاع إبراز الظروف المحيطة بالواقعة، كطبيعة الجمهور المستمع أو القارئ، والهدف المعلن للمتحدث، والمناسبة التي قيلت فيها الأقوال. فالسياق العام للأقوال يمكن أن يغير دلالتها تمامًا. على سبيل المثال، قد تختلف دلالة الأقوال إذا قيلت في سياق نقاش أكاديمي عن دلالتها في سياق دعوة جماهيرية للتظاهر بعنف. تقديم السياق الكامل يوضح الحقيقة.

الاستعانة بالخبرة الفنية واللغوية

في قضايا التحريض، يمكن أن يكون الاستعانة بخبراء اللغة أداة قوية في الدفاع. يمكن طلب ندب خبير لغوي متخصص لتحليل الألفاظ والعبارات المستخدمة، وتحديد ما إذا كانت تحمل دلالة الدعوة المباشرة إلى ارتكاب جريمة أم أنها مجرد تعبير عن رأي أو انتقاد. يقدم الخبير تحليلًا موضوعيًا لطبيعة الخطاب ومكوناته اللغوية ومدلولاته المحتملة وفقًا لقواعد اللغة والأسلوب.

يساعد الخبير اللغوي في تفكيك بنية الجمل وتحديد القصد الحقيقي الكامن وراءها، وهل كانت موجهة لإثارة الفوضى أو ارتكاب العنف، أم أنها كانت تهدف إلى إيصال رسالة معينة بطريقة سلمية. هذا التحليل يعطي المحكمة رؤية واضحة وموضوعية لطبيعة الأقوال بعيدًا عن أي تفسيرات شخصية أو متحيزة قد تؤثر على مجرى القضية.

شهادة الشهود وإثبات عدم وجود نية التحريض

تُعد شهادة شهود النفي الذين كانوا حاضرين وقت الإدلاء بالأقوال أو الذين لديهم معرفة بطبيعة المتهم وسلوكه، عنصرًا حيويًا في إثبات عدم وجود نية التحريض. يمكن لهؤلاء الشهود أن يدعموا رواية الدفاع بشأن السياق الذي قيلت فيه الأقوال، أو أن يثبتوا أن المتهم لم يكن يهدف إلى التحريض على ارتكاب جريمة، بل كان يعبر عن رأيه بطريقة مشروعة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن تقديم أدلة تثبت السلوك السابق للمتهم وشخصيته، كأن يكون شخصًا مسالمًا ومعروفًا باحترامه للقانون، مما يدعم دفع عدم وجود النية الإجرامية. هذه الأدلة تساعد على رسم صورة متكاملة للمتهم، وتساهم في إقناع المحكمة بأن ما قيل لم يكن بقصد التحريض الإجرامي، بل قد يكون مجرد سوء فهم أو تفسير خاطئ للأقوال.

عناصر إضافية لتعزيز الدفع

المبادئ الدستورية والقانونية لحرية التعبير

يجب على الدفاع الاستناد إلى المبادئ الدستورية والقانونية التي تكفل حرية التعبير والرأي، والتي تتضمنها الدساتير والمواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة. يجب تذكير المحكمة بأن التضييق على حرية التعبير يجب أن يتم في أضيق الحدود، وألا يكون ذريعة لتجريم الأقوال التي لا تحمل في جوهرها قصدًا إجراميًا حقيقيًا. هذا يعزز موقف الدفاع بأن الأقوال محل الاتهام تندرج ضمن الحقوق المكفولة.

السوابق القضائية المؤيدة للدفع

البحث عن السوابق القضائية وأحكام محكمة النقض المصرية التي فصلت في قضايا مشابهة وقضت ببراءة المتهمين لعدم توافر أركان جريمة التحريض، يُعد دليلًا قويًا لدعم الدفع. عرض هذه الأحكام يظهر للمحكمة أن هناك اتجاهًا قضائيًا يميل إلى تفسير نصوص التحريض تفسيرًا ضيقًا، بما يحمي حرية التعبير، ويوجه المحكمة نحو قرار مماثل في القضية المعروضة.

الإجراءات الوقائية لعدم الوقوع في شبهة التحريض

للوقاية من الوقوع في شبهة التحريض، ينصح الأفراد دائمًا بالحرص في اختيار الألفاظ والتعبيرات، وتجنب أي صيغ قد تُفهم على أنها دعوة مباشرة لارتكاب جريمة. يُفضل التعبير عن الآراء والانتقادات بطريقة واضحة ومباشرة دون استخدام لغة غامضة أو عنيفة، والتأكيد دائمًا على أن الدعوة تكون للتغيير السلمي والقانوني. يساعد هذا في حماية الأفراد من الملاحقات القانونية غير المبررة.

الخلاصة والتوصيات

تلخيص لأهم الدفوع والنقاط

إن الدفع بأن الأقوال لا تشكل تحريضًا يعتمد بشكل أساسي على تفنيد الركنين المادي والمعنوي لجريمة التحريض. يتطلب ذلك تحليلًا دقيقًا للأقوال وسياقها، والاستعانة بالخبرات الفنية، وتقديم شهادات الشهود التي تدعم عدم وجود النية الإجرامية. الدفاع الناجح يركز على حماية حرية التعبير مع احترام حدود القانون.

توصيات للمحامين والمتهمين

يُنصح المحامون بالتركيز على الشمولية في الدفاع، بتقديم كافة الأدلة والشهادات التي تثبت براءة موكليهم. أما المتهمون، فعليهم توخي الحذر الشديد في صياغة أقوالهم وتعبيراتهم، والاستعانة بالاستشارات القانونية المتخصصة عند الحاجة، لضمان عدم تجاوز الخطوط الفاصلة بين حرية التعبير والتحريض على الجريمة. الوعي القانوني هو الحصن المنيع.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock