الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصري

الفرق بين الدفع بانتفاء الفعل والدفع بانعدامه

الفرق بين الدفع بانتفاء الفعل والدفع بانعدامه

فهم الدفوع الجنائية الجوهرية لتحقيق العدالة

في منظومة العدالة الجنائية، تتعدد سبل الدفاع التي يمكن للمتهم أو محاميه أن يسلكها لإثبات براءته أو تخفيف العقوبة عنه. من بين هذه السبل، يبرز نوعان من الدفوع القانونية الدقيقة والجوهرية التي غالبًا ما يلتبس فهمهما لدى غير المتخصصين، وهما “الدفع بانتفاء الفعل” و”الدفع بانعدامه”.
تعتبر هذه الدفوع من الركائز الأساسية التي يبنى عليها الدفاع في كثير من القضايا الجنائية، وفهم الفروقات الدقيقة بينهما ليس مجرد تفصيل نظري، بل هو ضرورة عملية تمكن المحامي من توجيه دفوعه بالشكل الصحيح الذي يتناسب مع وقائع القضية المحددة.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذين المفهومين القانونيين الهامين، وشرح كل منهما على حدة، ثم استعراض الفروقات الجوهرية بينهما بأسلوب مبسط وعملي. سنتناول الأمثلة التطبيقية وكيفية توظيف كل دفع في سياقه الصحيح لضمان الدفاع الفعال عن حقوق المتهمين في ظل القانون المصري.

فهم الدفع بانتفاء الفعل

تعريف الدفع بانتفاء الفعل

الفرق بين الدفع بانتفاء الفعل والدفع بانعدامه
يعني الدفع بانتفاء الفعل أن الفعل المادي الذي يشكل الجريمة لم يحدث إطلاقًا. هذا الدفع يتعلق بالوجود المادي أو الوقوع الفعلي للسلوك الإجرامي المنسوب للمتهم. بمعنى آخر، ينكر الدفاع وقوع الفعل المادي للجريمة من الأساس، أو ينكر أن المتهم هو من قام بهذا الفعل. هذا الدفع يمس الركن المادي للجريمة مباشرة.

جوهر هذا الدفع هو أن العنصر المادي الأساسي المكون للجريمة، وهو السلوك الإجرامي، لم يقع في الحقيقة. قد يكون ذلك بسبب أن الواقعة لم تحدث على النحو الموصوف، أو أن المتهم لم يكن الفاعل لها، أو أن الوقائع التي تم الاستناد إليها في الاتهام لم تكن دقيقة أو صحيحة.

تطبيقات عملية للدفع بانتفاء الفعل

تتعدد الأمثلة التي يمكن فيها تطبيق الدفع بانتفاء الفعل. من أبرز هذه الأمثلة، دفع المتهم بأن له حجة غياب (أو أليبي) تثبت تواجده في مكان آخر وقت ارتكاب الجريمة المزعومة. ففي هذه الحالة، ينفي المتهم وقوع الفعل منه لأنه لم يكن متواجدًا في مسرح الجريمة بالأساس.

مثال آخر هو الدفع بعدم وجود أدلة مادية تربط المتهم بالفعل، أو الدفع بتزوير الأدلة أو تلفيقها. كذلك، إذا ادعى المتهم أنه لم يقم بالضرب الذي أدى إلى الإصابة، أو لم يطلق الرصاصة التي تسببت في الوفاة، فإنه يدفع بانتفاء الفعل المادي عنه. هذه الدفوع تتطلب إثباتًا قاطعًا بعدم وقوع الفعل من جانب المتهم.

نتائج الدفع بانتفاء الفعل

إذا نجح الدفاع في إثبات انتفاء الفعل المادي، فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلى براءة المتهم. فعدم وجود الركن المادي للجريمة يعني أن الجريمة لم تكتمل أركانها القانونية، وبالتالي لا يمكن معاقبة المتهم عليها. هذا الدفع يستهدف هدم أساس الاتهام من جذوره، وهو وقوع الفعل الإجرامي.

تعتبر المحكمة هذا الدفع جوهريًا وتتطلب من النيابة العامة أو المدعي إثبات وقوع الفعل المادي بشكل لا يدع مجالاً للشك. وفي حال فشل الإثبات، يتعين على المحكمة أن تصدر حكمًا بالبراءة لانعدام الدليل أو لعدم ثبوت الواقعة.

فهم الدفع بانعدام الفعل

تعريف الدفع بانعدام الفعل

يختلف الدفع بانعدام الفعل عن سابقه جوهريًا. ففي هذا الدفع، لا ينكر المتهم وقوع الفعل المادي المنسوب إليه. بل على العكس، يعترف بوقوع الفعل، ولكنه يدفع بأن هذا الفعل، رغم وقوعه، لا يشكل جريمة قانونًا. هذا يعني أن الفعل وقع، لكنه افتقد أحد الأركان القانونية أو الظروف التي تجعله مجرمًا.

يرتبط هذا الدفع بالركن المعنوي للجريمة (القصد الجنائي) أو بالصفة غير المشروعة للفعل، أو بوجود أسباب إباحة تنفي عنه الصفة الجرمية. بمعنى آخر، المتهم قام بالسلوك، ولكن القانون لا يجرم هذا السلوك في ظل الظروف التي وقع فيها.

تطبيقات عملية للدفع بانعدام الفعل

من الأمثلة الواضحة على الدفع بانعدام الفعل، دفع المتهم بالدفاع الشرعي عن النفس أو المال. ففي هذه الحالة، المتهم قام بالفعل المادي (الضرب، القتل، إلخ)، لكن هذا الفعل وقع تحت وطأة ضرورة الدفاع عن نفسه أو ماله وفقًا للضوابط القانونية. هنا، الفعل وقع، لكنه مبرر قانونًا.

مثال آخر هو دفع الطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية تؤدي إلى وفاة المريض، بأن فعله كان في إطار ممارسة مهنته وبموافقة المريض أو وليه، ولم يكن هناك إهمال أو خطأ جسيم. فالفعل (التسبب في الوفاة) وقع، لكنه لا يعد جريمة لأن هناك سبب إباحة أو عدم قصد جنائي.

كذلك، دفع الموظف العمومي الذي استخدم القوة لفض تجمع غير قانوني، بأن فعله كان بموجب القانون وفي حدود واجبات وظيفته. الفعل المادي (استخدام القوة) قد حدث، لكنه مبرر قانونًا. هذه الدفوع تركز على تكييف الفعل قانونًا.

نتائج الدفع بانعدام الفعل

إذا ثبتت صحة الدفع بانعدام الفعل، فإن النتيجة تكون براءة المتهم أيضًا. ولكن سبب البراءة هنا يختلف؛ فالبراءة لا تكون لعدم وقوع الفعل، بل لكون الفعل الذي وقع لا يشكل جريمة جنائية في نظر القانون، إما لانتفاء القصد الجنائي أو لوجود سبب من أسباب الإباحة التي نص عليها القانون.

هذا الدفع يتطلب من المحكمة دراسة وتمحيص الظروف المحيطة بالفعل المادي، وتطبيق النصوص القانونية المتعلقة بأسباب الإباحة أو انتفاء الركن المعنوي للجريمة. النجاح في هذا الدفع يعني أن القانون نفسه يبرئ الفاعل من المسؤولية الجنائية رغم قيامه بالفعل.

الفروقات الجوهرية وطرق التمييز

التمييز الأساسي بين الدفعين

يكمن الفرق الجوهري والرئيسي بين الدفع بانتفاء الفعل والدفع بانعدامه في نقطة الوجود المادي للفعل. في “الدفع بانتفاء الفعل”، ينكر الدفاع وقوع الفعل المادي المنسوب للمتهم من الأساس. المتهم يقول “لم أقم بهذا الفعل” أو “هذا الفعل لم يحدث”. بينما في “الدفع بانعدام الفعل”، يعترف المتهم بوقوع الفعل المادي، لكنه يدعي أن هذا الفعل لا يشكل جريمة جنائية قانونًا. المتهم يقول “نعم قمت بالفعل، لكنه ليس جريمة”.

الدفع الأول (انتفاء الفعل) يطعن في الركن المادي للجريمة كوجود مادي، بينما الدفع الثاني (انعدام الفعل) يطعن في الصفة الإجرامية للفعل، أي في كونه مخالفًا للقانون الجنائي، إما لانتفاء القصد الجنائي أو لوجود سبب إباحة.

متطلبات الإثبات لكل دفع

تختلف متطلبات الإثبات لكل دفع بشكل كبير. في الدفع بانتفاء الفعل، يقع على عاتق النيابة العامة عبء إثبات أن المتهم قد قام بالفعل المادي المنسوب إليه. بينما يمكن للدفاع أن يقدم أدلة تنفي ذلك، مثل شهادات الشهود، أدلة غياب، أو تقارير فنية تدحض وقوع الفعل من المتهم.

أما في الدفع بانعدام الفعل، فعبء الإثبات قد ينتقل جزئيًا أو كليًا إلى الدفاع لإثبات وجود سبب الإباحة أو انتفاء القصد الجنائي. فمثلاً، في حالة الدفاع الشرعي، يجب على الدفاع إثبات توافر شروط الدفاع الشرعي المنصوص عليها قانونًا. هذا يتطلب غالبًا تقديم أدلة وبراهين تثبت الظروف التي أحاطت بالفعل.

الاستراتيجية القانونية لتطبيق الدفعين

يجب على المحامي المحترف أن يكون دقيقًا في اختيار الدفع المناسب للواقعة المعروضة أمامه. فإذا كانت الأدلة تشير بوضوح إلى عدم قيام المتهم بالفعل المادي، فإن الدفع بانتفاء الفعل هو الأقوى. أما إذا كان المتهم قد قام بالفعل، ولكن هناك ظروف تجعل هذا الفعل مباحًا أو غير مجرم، فإن الدفع بانعدام الفعل هو المسار الصحيح.

قد يحدث تداخل في بعض الحالات، حيث يمكن للمحامي أن يدفع بالدفعين احتياطيًا. ومع ذلك، فإن الفهم الدقيق للفرق بينهما يساعد في بناء استراتيجية دفاع متماسكة ومنطقية تزيد من فرص تحقيق البراءة. يعتمد اختيار الدفع على تحليل شامل للوقائع، الأدلة المتاحة، والنصوص القانونية المنطبقة.

أمثلة عملية من القضاء المصري

حالات الدفع بانتفاء الفعل في المحاكم المصرية

في العديد من القضايا الجنائية أمام المحاكم المصرية، يتم الدفع بانتفاء الفعل. على سبيل المثال، في قضايا السرقة، قد يدفع المتهم بأن الكاميرات المراقبة أظهرت أنه لم يكن موجودًا في مكان الواقعة وقت حدوث السرقة، أو أن البصمات المرفوعة من مسرح الجريمة لا تطابقه.

مثال آخر يظهر في قضايا الضرب المفضي إلى عاهة مستديمة، حيث يدفع المتهم بأنه لم يكن الفاعل الأصلي للضرب، أو أن الضربة التي وجهها لم تكن هي المسببة للعاهة، وإنما كان هناك فعل لاحق من شخص آخر أو ظرف خارجي هو ما أدى إلى النتيجة. هنا، التركيز على عدم وقوع الفعل أو عدم إسناده للمتهم.

حالات الدفع بانعدام الفعل في المحاكم المصرية

تظهر حالات الدفع بانعدام الفعل بشكل متكرر في قضايا الاعتداء، حيث يدفع المتهم بأن فعله كان في سياق الدفاع الشرعي عن النفس، كأن يكون قد تعرض لاعتداء وشيك وخطير، ولم يكن أمامه سبيل سوى دفع هذا الاعتداء بالقوة اللازمة. المحكمة هنا تبحث في مدى توافر شروط الدفاع الشرعي.

في قضايا السب والقذف، قد يدفع المتهم بأن الألفاظ المستخدمة لم تكن تشكل سبًا أو قذفًا في سياقها الذي قيلت فيه، أو أنها كانت في إطار النقد المباح. هنا، المتهم لا ينكر قول الألفاظ، بل ينكر أنها تحمل الصفة الجرمية.

كذلك، في قضايا الإتلاف، قد يدفع المتهم بأن إتلافه للمال كان لسبب قهري أو لإنقاذ حياة، مما يفقده الصفة الجرمية. هذه الأمثلة توضح كيف أن الفعل قد يقع، لكن تبريره القانوني يجعله غير معاقب عليه.

نصائح قانونية للمتقاضين والمحامين

متى تستخدم كل دفع بفعالية

للمتقاضي، من المهم جدًا فهم طبيعة الاتهام الموجه إليه والظروف المحيطة بالواقعة. إذا كنت متأكدًا من أنك لم تقم بالفعل المادي المتهم به، أو أن الواقعة لم تحدث على النحو المزعوم، فعليك التركيز على إثبات انتفاء الفعل. أما إذا كنت قد قمت بالفعل، لكنك تعتقد أن فعلك كان مبررًا قانونًا (كالدفاع عن النفس)، فعليك الدفع بانعدام الصفة الجرمية للفعل.

للمحامي، يجب إجراء تحقيق شامل في الوقائع والأدلة. قم بتحليل دقيق لعناصر الجريمة الموجهة للموكل، وقارنها بالوقائع الفعلية. إذا كان هناك شك في وقوع الفعل من الأساس، فابدأ بجمع الأدلة التي تثبت عدم وقوعه. وإذا كان الفعل قد وقع ولكن هناك ما يبرره قانونًا، فاعمل على بناء دفاعك حول أسباب الإباحة أو انتفاء القصد الجنائي.

خطوات عملية لجمع الأدلة وتوثيقها

للدفع بانتفاء الفعل: قم بجمع أي دليل يثبت عدم تواجدك في مسرح الجريمة (فواتير، شهادات، صور، فيديوهات). ابحث عن أي تناقض في شهادات الشهود أو تقارير الشرطة. اطلب تفريغ كاميرات المراقبة، وراجع أي مستندات تدحض الاتهام.

للدفع بانعدام الفعل: اجمع الأدلة التي تثبت الظروف التي دفعتك لارتكاب الفعل، مثل تقارير طبية عن إصابات تعرضت لها في حالة الدفاع الشرعي، أو شهادات تثبت التهديد الذي تعرضت له. وثق أي محاولات منك لتجنب الفعل قبل ارتكابه. استشر الخبراء لتقديم رأي فني يدعم دفعك.

أهمية الاستشارة القانونية المتخصصة

نظرًا للدقة والتعقيد القانوني الذي ينطوي عليه كل من الدفع بانتفاء الفعل والدفع بانعدامه، فإنه من الضروري جدًا الاستعانة بمحامٍ متخصص في القانون الجنائي. المحامي المتخصص لديه الخبرة والمعرفة اللازمة لتحليل القضية، تحديد الدفع الأنسب، وتقديم الأدلة بالطريقة الصحيحة أمام المحكمة.

الاستشارة القانونية المبكرة تمكنك من فهم حقوقك وواجباتك، وتساعد في بناء استراتيجية دفاع قوية ومدروسة. لا تتردد في طلب المشورة من محامٍ ذي خبرة في القانون المصري، لضمان سير الإجراءات القانونية بالشكل الأمثل وتحقيق أفضل النتائج الممكنة لقضيتك.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock