الاستشارات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريمحكمة الجنايات

مسؤولية الطبيب الجنائية في العمليات الجراحية

مسؤولية الطبيب الجنائية في العمليات الجراحية

متى يتحول مشرط الجراح إلى أداة جريمة؟ دليل شامل لفهم حدود المسؤولية القانونية

تعتبر مهنة الطب من أسمى المهن الإنسانية، حيث يُعهد إلى الطبيب بأغلى ما يملك الإنسان وهو جسده وصحته. وفي إطار العمليات الجراحية، يتخذ الطبيب قرارات حاسمة قد تفصل بين الحياة والموت. لكن هذا الدور النبيل لا يمنحه حصانة مطلقة. يضع القانون المصري حدودًا واضحة للممارسة الطبية، ويُسائل الطبيب جنائيًا عند وقوع خطأ جسيم يتجاوز حدود المخاطر العلاجية المتعارف عليها ويُحدث ضررًا للمريض. هذا المقال يقدم دليلاً عمليًا لفهم هذه المسؤولية وأبعادها.

أركان قيام المسؤولية الجنائية للطبيب

الركن المادي: الخطأ الطبي

مسؤولية الطبيب الجنائية في العمليات الجراحيةلا تقوم المسؤولية الجنائية للطبيب إلا بوجود خطأ واضح منسوب إليه. لا يُقصد بالخطأ هنا مجرد فشل العملية في تحقيق النتيجة المرجوة، فالطب ليس علمًا مضمون النتائج. إنما الخطأ هو سلوك أو امتناع يصدر عن الطبيب ويخالف الأصول العلمية والفنية المستقرة في مهنة الطب. يجب أن يكون هذا السلوك إيجابيًا كإجراء جراحي خاطئ، أو سلبيًا كإهمال تعقيم الأدوات. هذا الخطأ يجب أن يكون جسيمًا وخارجًا عن المألوف في الممارسة الطبية السليمة ليقع تحت طائلة القانون الجنائي.

الركن المعنوي: الإهمال أو عدم الاحتراز

في معظم قضايا المسؤولية الطبية الجنائية، لا يُشترط توافر القصد الجنائي لدى الطبيب، أي نيته إحداث الضرر. بل يكفي إثبات وقوع الخطأ غير العمدي الناتج عن الإهمال، أو الرعونة، أو عدم الاحتراز، أو عدم مراعاة القوانين واللوائح. فالقانون لا يعاقب الطبيب على سعيه لعلاج المريض، بل يعاقبه على تقصيره وإخلاله بواجباته المهنية التي أدت لوقوع الضرر. فلو أهمل متابعة المريض بعد الجراحة أو استخدم جهازًا لم يتدرب عليه كفاية، فإنه يكون مسؤولاً عن النتائج الضارة.

علاقة السببية بين الخطأ والضرر

حتى تكتمل أركان الجريمة، يجب إثبات وجود رابط مباشر بين الخطأ الذي ارتكبه الطبيب والضرر الذي لحق بالمريض، سواء كان إصابة أو وفاة. إذا لم تكن هناك علاقة سببية واضحة، فلا يمكن مساءلة الطبيب. على سبيل المثال، إذا توفي مريض بعد جراحة بسبب أزمة قلبية مفاجئة لا علاقة لها بالعملية الجراحية أو التخدير، تنتفي مسؤولية الطبيب حتى لو كان هناك خطأ بسيط في إجراء آخر. عبء إثبات هذه العلاقة يقع على عاتق النيابة العامة وجهة الادعاء بمساعدة تقارير الطب الشرعي.

صور الخطأ الطبي الموجب للمساءلة الجنائية

الإهمال وعدم الاحتراز

يعد الإهمال الصورة الأكثر شيوعًا للخطأ الطبي. يتمثل في ترك الطبيب لواجب تفرضه عليه أصول المهنة. من الأمثلة العملية على ذلك نسيان أداة جراحية أو قطعة شاش داخل جسم المريض، أو عدم إجراء الفحوصات اللازمة قبل الجراحة للتأكد من جاهزية المريض، أو عدم اتخاذ احتياطات منع العدوى مما يؤدي إلى تلوث الجرح. كل هذه الأفعال تمثل تقصيرًا واضحًا في بذل العناية الواجبة التي يتوقعها المريض والمجتمع من أي طبيب حريص.

الرعونة وعدم اتباع الأصول العلمية

تتمثل الرعونة في التصرف بتهور أو نقص في المهارة الفنية المطلوبة للقيام بالعمل الجراحي. من الأمثلة على ذلك قيام طبيب بإجراء عملية جراحية معقدة لا تدخل في نطاق تخصصه الدقيق أو خبرته، أو استخدام تقنية جراحية جديدة دون الحصول على التدريب الكافي عليها، أو إحداث قطع أو إصابة لعضو سليم مجاور لمكان الجراحة نتيجة لنقص الدقة والتركيز. هذه الصورة من الخطأ تدل على سوء تقدير الطبيب لقدراته أو استخفافه بسلامة المريض.

مخالفة القوانين واللوائح المنظمة للمهنة

تفرض الدولة مجموعة من القوانين واللوائح لتنظيم ممارسة مهنة الطب وضمان سلامة المرضى. تشكل مخالفة هذه الأنظمة خطأ مهنيًا موجبًا للمساءلة. من الأمثلة على ذلك إجراء عملية جراحية في عيادة غير مجهزة أو غير مرخصة لمثل هذه العمليات، أو استخدام أدوية أو مستلزمات طبية غير مصرح بها من وزارة الصحة، أو ممارسة المهنة دون الحصول على الترخيص اللازم. في هذه الحالات، يكون الطبيب مخطئًا لمجرد مخالفته للنظام العام حتى قبل النظر في نتيجة الجراحة.

الإجراءات العملية لإثبات الخطأ الطبي الجنائي

الخطوة الأولى: تحرير محضر رسمي

تبدأ رحلة المساءلة القانونية بتقديم شكوى رسمية. يمكن للمريض المتضرر أو ذويه التوجه إلى قسم الشرطة الذي يقع في دائرته المستشفى أو العيادة وتحرير محضر بالواقعة، مع ذكر كافة التفاصيل والاحتفاظ بأي مستندات طبية متاحة. كذلك يمكن تقديم بلاغ مباشر إلى النيابة العامة. يُنصح في هذه المرحلة بالاستعانة بمحامٍ متخصص في القضايا الطبية لتوجيه الإجراءات بشكل سليم وضمان سرد الوقائع بطريقة قانونية دقيقة تدعم موقف الشاكي وتسهل مهمة جهات التحقيق.

الخطوة الثانية: دور النيابة العامة والطب الشرعي

بمجرد وصول البلاغ للنيابة العامة، تبدأ مرحلة التحقيق. تقوم النيابة بالتحفظ على الملف الطبي الكامل للمريض واستجواب الأطراف المعنية من أطباء وطاقم تمريض. الخطوة الأهم هي إحالة الأوراق إلى مصلحة الطب الشرعي. يقوم الطب الشرعي بتشكيل لجنة من أطباء خبراء في التخصص محل الشكوى لفحص المريض أو تقاريره الطبية. يصدر الطب الشرعي تقريرًا فنيًا مفصلاً يوضح ما إذا كان هناك خطأ طبي قد وقع، وطبيعته، ومدى جسامته، وعلاقته بالضرر الحادث، وهو ما يعتبر الدليل الفني الرئيسي في القضية.

الخطوة الثالثة: التصرف في المحضر وإحالته للمحكمة

بناءً على تحقيقات النيابة وتقرير الطب الشرعي، تتخذ النيابة قرارها. إذا تبين لها وجود خطأ طبي جسيم أدى إلى إصابة أو وفاة، تقوم بإحالة الطبيب المتهم للمحاكمة الجنائية. تُحال القضية إلى محكمة الجنح في حالات الإصابة الخطأ، أو إلى محكمة الجنايات في حالات العاهة المستديمة أو القتل الخطأ. أمام المحكمة، يتم تداول القضية وسماع الشهود ومناقشة تقرير الطب الشرعي، وفي النهاية تصدر المحكمة حكمها إما بالإدانة وتوقيع العقوبة أو بالبراءة.

دفوع الطبيب لانتفاء مسؤوليته الجنائية

انتفاء رابطة السببية

أحد أهم الدفوع التي قد يستند إليها الطبيب هو قطع رابطة السببية بين فعله والنتيجة الضارة. يمكن لمحامي الطبيب أن يثبت أن الضرر الذي لحق بالمريض لم يكن نتيجة مباشرة لخطئه، بل يرجع إلى سبب آخر أجنبي عنه. قد يكون هذا السبب هو تدهور مفاجئ في حالة المريض الصحية لا علاقة له بالجراحة، أو وجود مرض خفي لم تظهره الفحوصات، أو عدم التزام المريض بتعليمات ما بعد الجراحة. إذا نجح الدفاع في إثبات ذلك، تنتفي مسؤولية الطبيب الجنائية.

الحالة الاضطرارية والمضاعفات الطبية الواردة

قد يدفع الطبيب بأن الضرر حدث نتيجة لمضاعفات طبية واردة ومتعارف عليها في مثل هذا النوع من الجراحات، وأنها ليست نتيجة خطأ منه. الطب ليس علمًا دقيقًا، وبعض الجراحات تحمل نسبة مخاطر عالية بطبيعتها. كذلك، قد يجد الطبيب نفسه في حالة اضطرارية تستدعي تدخلاً جراحيًا فوريًا لإنقاذ حياة المريض، مما قد يضطره لاتخاذ قرارات سريعة في ظروف صعبة قد لا تكون مثالية. في هذه الحالات، إذا أثبت أنه تصرف بما يمليه عليه واجب إنقاذ المريض، فقد لا يُسأل عن النتائج غير المرغوبة.

موافقة المريض المستنيرة

قبل أي إجراء جراحي، يجب على الطبيب الحصول على موافقة كتابية من المريض أو من يمثله قانونًا، تُعرف بـ “الإقرار بالموافقة المستنيرة”. يجب أن تتضمن هذه الموافقة شرحًا واضحًا لطبيعة الجراحة وفوائدها والمخاطر والمضاعفات المحتملة والبدائل المتاحة. تعتبر هذه الموافقة دفاعًا مهمًا للطبيب، حيث تثبت أن المريض كان على علم بالمخاطر وقبل بها. ولكن، تجدر الإشارة إلى أن هذه الموافقة لا تعفي الطبيب من المسؤولية عن أخطائه المهنية الجسيمة كالإهمال أو الرعونة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock