الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

الدفع بقيام حالة الضرورة

الدفع بقيام حالة الضرورة: حماية قانونية في وجه الاضطرار

فهم شامل لضوابط وشروط تطبيقها في القانون المصري

تُعد حالة الضرورة أحد أهم أسباب الإباحة في القانون الجنائي، حيث تُمكن الفرد من ارتكاب فعل يُجرمه القانون في الظروف العادية، وذلك لدرء خطر جسيم ووشيك لا يمكن تلافيه إلا بهذا الفعل. يهدف هذا المقال إلى استكشاف مفهوم الدفع بقيام حالة الضرورة، وشروطها الجوهرية، وكيفية تقديمها أمام الجهات القضائية، بالإضافة إلى تحليل الفروق الدقيقة بينها وبين مفاهيم قانونية أخرى مشابهة، مقدمًا حلولًا عملية للإحاطة بكافة جوانب هذا الدفاع القانوني الحيوي.

مفهوم حالة الضرورة وأساسها القانوني

تعريف حالة الضرورة

الدفع بقيام حالة الضرورةتُعرف حالة الضرورة قانونيًا بأنها الموقف الذي يضطر فيه الشخص لارتكاب فعل يُجرمه القانون، بهدف إنقاذ نفسه أو غيره من خطر جسيم محدق لا يمكن تلافيه بطريق آخر. يُعد هذا الفعل في الأصل جريمة، لكن القانون يبيحه أو يقلل من مسؤوليته الجنائية نظرًا للظروف القاهرة التي دفعته إليه، مما يجعل الفاعل غير مسؤول جنائيًا أو تُخفف عقوبته.

جوهر حالة الضرورة يكمن في موازنة المشرع بين مصلحتين متضاربتين، بحيث يضحى الأقل قيمة للحفاظ على الأهم. يُبنى هذا المبدأ على فكرة أن البقاء والتضحية بالضرر الأقل هو خيار لا مفر منه في لحظات الأزمات الحقيقية. تُستخدم حالة الضرورة كدفاع أمام المحاكم في العديد من القضايا، لا سيما في جرائم الأموال والأشخاص.

الأساس القانوني لحالة الضرورة في القانون المصري

يستند الدفع بحالة الضرورة في القانون المصري إلى نصوص واضحة، أبرزها المادة 61 من قانون العقوبات المصري التي تنص على “لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقائية لتفادي خطر جسيم يوشك أن يقع به أو بغيره، ولم يكن في قدرته تفادي هذا الخطر بوسيلة أخرى”. هذا النص يوضح بجلاء شروط الإعفاء من العقوبة.

كما تتناول مواد أخرى من قانون العقوبات تطبيقات مختلفة أو جوانب تتعلق بالظروف المخففة التي قد تنتج عن حالات الضرورة التي لا تستوفي كل شروط الإباحة الكاملة. الفهم الدقيق لهذه المواد ضروري لأي محام أو شخص يسعى للدفع بهذا السبب أمام القضاء، وتقديم أدلة قوية تدعم ادعاءه بأن الفعل كان اضطرارياً.

الشروط الجوهرية لتحقق حالة الضرورة

وجود خطر جسيم ووشيك

أول الشروط الأساسية لتحقق حالة الضرورة هو وجود خطر حقيقي يهدد الشخص أو آخرين، ويجب أن يكون هذا الخطر جسيمًا ووشيك الوقوع. الخطر الجسيم يعني تهديدًا للحياة أو السلامة الجسدية أو الممتلكات ذات القيمة الكبيرة. الخطر الوشيك يعني أنه على وشك الحدوث أو قائم بالفعل، ولا يوجد متسع من الوقت لانتظار مساعدة قانونية.

لا يكفي مجرد الشعور بالتهديد، بل يجب أن يكون الخطر موضوعيًا وقابلاً للإثبات. على سبيل المثال، شخص يسرق طعامًا لإنقاذ نفسه من الموت جوعًا في الصحراء يواجه خطرًا جسيمًا ووشيكًا. أما مجرد الخوف من الجوع في ظروف عادية فلا يُعد خطرًا يبرر ارتكاب جريمة. يجب على الدفوع القانونية أن تثبت وجود هذا الخطر بوضوح.

عدم القدرة على تلافي الخطر بوسيلة أخرى

يشترط أن يكون الفعل المرتكب هو السبيل الوحيد لدفع الخطر الجسيم والوشيك. إذا كان بالإمكان تلافي الخطر بوسائل أخرى أقل ضررًا أو قانونية، فلا تتحقق حالة الضرورة. هذا الشرط يتطلب من الشخص أن يكون قد استنفد جميع الخيارات المتاحة والمشروعة لتفادي الضرر قبل اللجوء إلى الفعل غير القانوني.

يجب أن يثبت الدفاع أن الشخص لم يكن لديه بديل معقول أو قانوني لمنع الضرر. على سبيل المثال، إذا كان بالإمكان الاتصال بالشرطة أو طلب المساعدة من الجيران لتفادي الخطر، ولم يفعل الشخص ذلك، فقد لا تُقبل دفعه بحالة الضرورة. هذا يتطلب استعراض دقيق للوقائع لإظهار عدم وجود أي خيار آخر.

التناسب بين الفعل المرتكب والخطر المهدد

يجب أن يكون هناك تناسب معقول بين الفعل الذي تم ارتكابه والضرر الذي تم تفاديه. بمعنى آخر، لا يجوز أن يكون الضرر الذي تسببه الفعل أكبر من الضرر الذي كان سيلحق لو لم يتم ارتكاب الفعل. هذا الشرط يضمن أن الشخص لم يستغل حالة الضرورة لارتكاب جرائم مبالغ فيها أو لا تتناسب مع حجم التهديد.

على سبيل المثال، لا يمكن لشخص أن يقتل آخر لإنقاذ ممتلكات لا تقدر بقيمة حياة إنسان، إلا في ظروف استثنائية جداً. التناسب هو عنصر أساسي في تحديد ما إذا كان الفعل ضروريًا حقًا أم أنه تجاوز الحدود المعقولة. تقدير التناسب يعود في النهاية إلى السلطة القضائية بناءً على جميع ملابسات القضية المعروضة.

عدم تسبب المتهم في حالة الضرورة

لا يجوز للشخص أن يدفع بحالة الضرورة إذا كان هو من تسبب بخطئه أو عمدًا في إيجاد الظرف الذي أدى إلى حالة الضرورة. فمن خلق الخطر لا يجوز له أن يستفيد منه لتبرير أفعاله غير القانونية. هذا الشرط يمنع أي شخص من التحايل على القانون أو استغلال ثغراته.

على سبيل المثال، إذا قام شخص بإشعال حريق عمدًا ثم سرق ممتلكات أثناء الفوضى بحجة إنقاذ نفسه، فلا يمكنه الدفع بحالة الضرورة. يجب أن يكون الخطر قد نشأ عن عوامل خارجية أو ظروف قاهرة لم يتسبب فيها الشخص بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا يعزز من نزاهة تطبيق مبدأ حالة الضرورة.

إجراءات الدفع بحالة الضرورة أمام القضاء

جمع الأدلة والبراهين

لتقديم دفع قوي بحالة الضرورة، يجب على الدفاع جمع كافة الأدلة التي تثبت وجود الخطر الجسيم والوشيك، وعدم وجود وسيلة أخرى لتلافيه، والتناسب بين الفعل والخطر. يمكن أن تشمل هذه الأدلة شهادات الشهود، تقارير الخبراء، سجلات طبية، صور، مقاطع فيديو، أو أي وثائق أخرى تثبت وقائع الحادث.

من المهم جداً ترتيب هذه الأدلة وتقديمها بشكل منهجي وواضح للمحكمة. يجب أن تكون الأدلة قوية ومقنعة بما يكفي لإزالة أي شك حول أن الفعل كان اضطرارياً. الاستعانة بمحام متخصص في القانون الجنائي يُمكن أن يساعد في تحديد الأدلة الأكثر أهمية وكيفية عرضها بفعالية أمام القضاة.

صياغة المذكرات القانونية

تعتبر المذكرات القانونية هي الأداة الرئيسية لعرض الدفع بحالة الضرورة. يجب أن تتضمن هذه المذكرات شرحًا وافيًا للوقائع، وتحليلًا قانونيًا مفصلاً لشروط حالة الضرورة وكيف تنطبق على القضية المعروضة. يجب أن تستند المذكرة إلى النصوص القانونية السارية والسوابق القضائية التي تدعم موقف الدفاع.

يجب أن تُصاغ المذكرات بلغة قانونية دقيقة وواضحة، مع التركيز على النقاط الجوهرية وتقديم الحجج بطريقة منطقية ومترابطة. من الضروري إبراز كيف أن كل شرط من شروط حالة الضرورة قد تحقق في الظروف التي أدت إلى ارتكاب الفعل، مع دحض أي حجج مضادة محتملة من قبل النيابة العامة أو الطرف الآخر.

مرحلة المرافعة أمام المحكمة

تُعد مرحلة المرافعة الشفوية أمام المحكمة فرصة لعرض الدفع بحالة الضرورة وتوضيح جميع الجوانب المتعلقة به. يجب على المحامي أن يكون مستعدًا جيدًا لتقديم الحجج، والإجابة على أسئلة القضاة، والتعامل مع أي اعتراضات من الخصم. الشرح الوافي للظروف التي أحاطت بالمتهم يمكن أن يؤثر بشكل كبير في قناعة المحكمة.

خلال المرافعة، يجب التركيز على الجانب الإنساني للظروف التي دفعت المتهم لارتكاب الفعل، مع التأكيد على أن الفعل لم يكن بدافع جنائي وإنما بدافع الضرورة القصوى. الاستشهاد بالنصوص القانونية والسوابق القضائية ذات الصلة يدعم قوة المرافعة ويزيد من فرص قبول الدفع من قبل المحكمة.

الفروق الجوهرية بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي والإكراه

الفرق بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي

على الرغم من التشابه في كونهما أسباب إباحة، إلا أن هناك فروقًا جوهرية بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي. في الدفاع الشرعي، يواجه الشخص اعتداءً غير مشروع من إنسان آخر، ويُدافع عن نفسه أو ماله أو غيره. فالخطر هنا مصدره فعل إنساني عدواني مباشر، ويكون الهدف هو دفع هذا الاعتداء.

أما في حالة الضرورة، فإن الخطر قد ينشأ من أي مصدر (طبيعي، حيواني، أو حتى فعل إنساني غير عدواني)، ويكون الفعل المرتكب لدرء الخطر موجهًا ضد مصلحة طرف ثالث بريء، وليس ضد المعتدي. على سبيل المثال، سرقة سيارة لإنقاذ حياة مريض تُعد حالة ضرورة، بينما رد هجوم مسلح يُعد دفاعًا شرعيًا.

الفرق بين حالة الضرورة والإكراه

يختلف الإكراه عن حالة الضرورة في أن الإكراه يعني أن الشخص قد أجبر على ارتكاب الفعل الجنائي تحت تأثير تهديد مباشر لا يقاوم، سواء كان إكراهًا ماديًا أو معنويًا، بحيث سُلبت إرادته. في هذه الحالة، لا تُنسب الجريمة إلى الفاعل لأنه لم يمتلك إرادة حرة في ارتكاب الفعل.

بينما في حالة الضرورة، يظل الشخص يمتلك إرادته ولكنه يختار ارتكاب الفعل الأقل ضررًا لدرء خطر أكبر. الإرادة هنا موجودة، ولكنها مقيدة بالضرورة. الإكراه يزيل المسؤولية الجنائية بالكامل لعدم وجود إرادة، بينما حالة الضرورة تبيح الفعل أو تخفف من العقوبة لاعتبارات الموازنة بين المصالح المتضاربة.

نصائح عملية لتقديم دفع قوي بحالة الضرورة

التوثيق الدقيق للوقائع

يجب توثيق كل تفاصيل الواقعة التي أدت إلى حالة الضرورة بأسرع وقت ممكن. يتضمن ذلك تحديد زمان ومكان الحادث بدقة، وتفاصيل الخطر الذي كان قائمًا، والوسائل التي تم استخدامها لمحاولة تلافيه قبل اللجوء إلى الفعل المرتكب. كلما كان التوثيق أكثر دقة، كان الدفع أقوى.

التقاط الصور أو تسجيل مقاطع الفيديو للموقف (إذا كان ذلك ممكنًا وآمنًا)، والحصول على شهادات مكتوبة من أي شهود عيان، وجمع أي تقارير رسمية (مثل تقارير الشرطة أو الإسعاف) كلها أدلة حيوية. التوثيق الجيد يساعد في بناء قصة متكاملة ومقنعة للمحكمة.

الاستشارة القانونية المتخصصة

من الضروري طلب المشورة من محام متخصص في القانون الجنائي فور وقوع الحادث. يمكن للمحامي تقييم الوضع، وتحديد ما إذا كانت شروط حالة الضرورة تنطبق، وتقديم النصح حول كيفية جمع الأدلة وتقديم الدفع بشكل فعال. الخبرة القانونية تلعب دورًا حاسمًا في نجاح هذا النوع من الدفوع.

المحامي سيساعدك في فهم التعقيدات القانونية، وتجنب الأخطاء الشائعة، وصياغة الحجج القانونية بطريقة احترافية. الاستشارة المبكرة يمكن أن توفر الوقت والجهد، وتزيد بشكل كبير من فرص قبول الدفع بحالة الضرورة أمام الجهات القضائية المختلفة.

الاستعداد للمناقشة والإثبات

توقع أن تقوم النيابة العامة أو الطرف المدعي بالتشكيك في وجود حالة الضرورة، أو في تحقق شروطها. لذلك، يجب أن تكون مستعدًا جيدًا لمناقشة كل نقطة وتقديم الإثباتات اللازمة. يتطلب ذلك فهمًا عميقًا للواقعة وللنصوص القانونية ذات الصلة.

تحضير إجابات مقنعة لأي أسئلة محتملة، وتدريب المحامي على عرض القضية بوضوح وثقة. كلما كنت أكثر استعدادًا وتماسكًا في عرض قضيتك، زادت احتمالية إقناع المحكمة بصدق وصحة دفعك. المثابرة والدقة في التحضير هما مفتاح النجاح في هذه المرحلة الحاسمة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock