الإجراءات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون الجنائيالقانون المصريجرائم الانترنت

مسؤولية المواقع الإخبارية عن التعليقات الجنائية

مسؤولية المواقع الإخبارية عن التعليقات الجنائية

الإطار القانوني والحلول العملية لحماية المواقع والمستخدمين

في عصر تتسارع فيه وتيرة تدفق المعلومات وتتزايد أعداد المنصات الرقمية، أصبحت المواقع الإخبارية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. ومع هذه الأهمية، تنشأ تحديات قانونية جمة، خاصة فيما يتعلق بالتعليقات التي ينشرها المستخدمون على محتواها. فهل تتحمل هذه المواقع مسؤولية قانونية عن أي تعليقات تحمل طابعاً جنائياً؟ وما هي الحدود الفاصلة بين حرية التعبير وحماية الأفراد والمجتمع من الجرائم الإلكترونية؟

الإطار القانوني لمسؤولية المواقع الإخبارية في مصر

مسؤولية المواقع الإخبارية عن التعليقات الجنائية
تخضع مسؤولية المواقع الإخبارية عن المحتوى المنشور عليها، بما في ذلك التعليقات، لجملة من القوانين والتشريعات المصرية التي تسعى للموازنة بين حرية التعبير وضرورة حماية الحقوق الفردية والجماعية. يمثل هذا التوازن تحدياً كبيراً في البيئة الرقمية المتغيرة باستمرار.

مسؤولية الناشر الأصلي للمحتوى

يُعد الموقع الإخباري في بعض الحالات ناشراً للمحتوى، خاصة إذا كان يتحكم بشكل كامل في نشره أو يشارك في صياغته. هنا، تقع عليه المسؤولية الكاملة عن أي محتوى مخالف للقانون، بما في ذلك التعليقات التي يوافق عليها أو يديرها بشكل مباشر. هذا النوع من المسؤولية يُشبه إلى حد كبير مسؤولية الصحيفة الورقية.

تتأكد هذه المسؤولية عندما يكون للموقع دور إيجابي في نشر التعليق، مثل الموافقة المسبقة عليه أو عدم حذفه بعد العلم بمدى مخالفته القانونية. في هذه الحالة، يمكن للمتضررين مقاضاة الموقع مباشرة باعتباره شريكًا في نشر المحتوى الجنائي.

مسؤولية وسيط الاستضافة عن محتوى الغير

تعتبر المواقع الإخبارية عادةً وسيطًا للاستضافة فيما يتعلق بالتعليقات التي ينشرها المستخدمون بشكل مباشر. هنا، تتغير طبيعة المسؤولية لتصبح أقل صرامة، لكنها لا تختفي تمامًا. الأصل أن الموقع لا يُسأل عن محتوى الغير ما لم يثبت علمه به ولم يتخذ الإجراءات اللازمة لحذفه.

الشرط الأساسي لتحميل الموقع مسؤولية عن تعليقات المستخدمين هو إثبات علمه بوجود التعليق المخالف للقانون وعدم اتخاذه إجراءات فورية لإزالته. وهذا يستلزم وجود آلية واضحة للإبلاغ عن التعليقات المسيئة، وتطبيق سياسات حظر المحتوى المخالف بشكل فعال.

قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (قانون رقم 175 لسنة 2018)

يُعد هذا القانون الأساس التشريعي الأهم في التعامل مع الجرائم الإلكترونية في مصر. ينص القانون على مسؤولية مقدمي الخدمات (مثل المواقع الإخبارية) عن المحتوى غير المشروع الذي يستضيفونه، وذلك في حال عدم اتخاذهم الإجراءات اللازمة لإزالته بعد إبلاغهم به.

يُلزم هذا القانون مقدمي الخدمات بالاحتفاظ ببيانات المستخدمين لفترة محددة، مما يساعد السلطات القضائية في تتبع مرتكبي الجرائم الإلكترونية. كما يحدد العقوبات لجرائم السب والقذف والتشهير والتحريض التي تتم عبر الإنترنت.

أنواع التعليقات الجنائية ومخاطرها

تتعدد صور التعليقات التي قد تقع تحت طائلة القانون، وتختلف تبعاً لطبيعة الضرر الذي تحدثه، ونوع الفعل الجرمي الذي تشكله. فهم هذه الأنواع ضروري لتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها.

السب والقذف والتشهير

يُعد السب والقذف من أبرز الجرائم التي قد تتضمنها التعليقات. السب هو كل تعبير يخدش شرف واعتبار الشخص دون أن يتضمن إسناد واقعة معينة، بينما القذف هو إسناد واقعة معينة إلى شخص لو صحت لأوجبت عقابه أو احتقاره. التشهير هو نشر هذه المعلومات الكاذبة أو المسيئة بقصد الإضرار بسمعة الشخص.

تترتب على هذه الأفعال عقوبات جنائية وفقاً لقانون العقوبات وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. يمكن أن تتسبب هذه التعليقات في أضرار معنوية ومادية جسيمة للأفراد والكيانات، مما يستدعي تدخلًا قانونيًا سريعًا.

التحريض على العنف أو الكراهية

قد تتضمن بعض التعليقات تحريضاً صريحاً أو ضمنياً على العنف ضد أفراد أو جماعات معينة، أو على الكراهية والتمييز بسبب العرق أو الدين أو النوع الاجتماعي. هذا النوع من التعليقات يشكل خطراً كبيراً على الأمن والسلم المجتمعي.

يعاقب القانون على التحريض على الكراهية أو العنف، ويُلزم المواقع باتخاذ إجراءات فورية لإزالة مثل هذه التعليقات، وقد يمتد المسؤولية إلى الموقع نفسه إذا تغاضى عن هذه الممارسات.

انتحال الشخصية والنصب الإلكتروني

قد تستخدم التعليقات أيضاً لأغراض احتيالية، كانتحال شخصية أخرى بقصد النصب أو الإضرار بها، أو نشر روابط خبيثة. هذه الأفعال تندرج تحت جرائم النصب الإلكتروني والاحتيال المعلوماتي.

تتسبب هذه الجرائم في أضرار مالية أو اختراق بيانات شخصية للمستخدمين. المواقع الإخبارية يجب أن تكون حذرة من التعليقات التي تطلب معلومات شخصية أو توجّه المستخدمين إلى مواقع احتيالية.

حلول عملية للمواقع الإخبارية للحد من المسؤولية

لحماية نفسها من المسؤولية القانونية ولتوفير بيئة آمنة لمستخدميها، يجب على المواقع الإخبارية تطبيق مجموعة من الإجراءات والسياسات الوقائية والردعية. هذه الحلول تشمل جوانب فنية وإدارية وقانونية.

سياسات الاستخدام والتعليقات الواضحة

يجب أن تنشر المواقع الإخبارية سياسة استخدام واضحة ومفصلة للتعليقات، تحدد فيها المحتوى المسموح به والمحظور بشكل صريح. يجب أن تكون هذه السياسة سهلة الوصول ومفهومة لجميع المستخدمين.

تشمل السياسة بنوداً حول عدم نشر السب والقذف، أو المحتوى التحريضي، أو الإعلانات غير المرغوب فيها، أو انتحال الشخصية. يجب أن تُشير إلى حق الموقع في حذف أي تعليق مخالف وتطبيق العقوبات اللازمة على المستخدم المخالف.

أنظمة الإشراف والمراجعة المسبقة أو اللاحقة

يمكن للمواقع استخدام أنظمة مراجعة للتعليقات، إما مسبقاً (أي لا يتم نشر التعليق إلا بعد موافقة المشرف)، أو لاحقاً (يُنشر التعليق ثم تتم مراجعته). المراجعة المسبقة أكثر أماناً لكنها قد تؤثر على سرعة النشر.

المراجعة اللاحقة تتطلب نظاماً فعالاً للإبلاغ من قبل المستخدمين وفريق إشراف سريع الاستجابة لحذف التعليقات المخالفة فور الإبلاغ عنها. يمكن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي للمساعدة في فلترة المحتوى الضار.

أدوات الإبلاغ والحظر للمستخدمين

يجب أن توفر المواقع الإخبارية أدوات سهلة وواضحة للمستخدمين للإبلاغ عن أي تعليق يرونه مخالفاً. هذا يُقلل من عبء الإشراف ويجعل المستخدمين شركاء في الحفاظ على بيئة تعليقات صحية.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يمتلك المشرفون القدرة على حظر المستخدمين الذين ينتهكون سياسات التعليق بشكل متكرر، لمنعهم من الإضرار بالموقع والمستخدمين الآخرين.

تدريب فريق العمل على التعامل مع الشكاوى

يجب تدريب فريق عمل الموقع الإخباري، خاصة المشرفين ومسؤولي المحتوى، على كيفية التعامل مع الشكاوى المتعلقة بالتعليقات الجنائية. يشمل ذلك فهم القوانين ذات الصلة وإجراءات الإبلاغ القانونية.

يضمن التدريب استجابة سريعة وفعالة للشكاوى، ويُقلل من مخاطر المسؤولية القانونية عن طريق التصرف الفوري والملائم تجاه المحتوى المخالف.

التعاون مع السلطات القانونية

في حال وجود تعليقات تُشكل جرائم جنائية خطيرة، يجب على المواقع الإخبارية التعاون بشكل كامل مع السلطات القانونية والنيابة العامة. يشمل ذلك تقديم المعلومات المطلوبة حول هوية الناشر للتعليق (إن وجدت) والبيانات الفنية.

يُعد هذا التعاون ضرورياً لضمان تطبيق القانون ومحاسبة مرتكبي الجرائم، ويُعفي الموقع من جزء كبير من المسؤولية إذا أثبت أنه بذل العناية الواجبة وتعاون مع الجهات المختصة.

إجراءات المتضررين لرفع التعليقات الجنائية وملاحقة مرتكبيها

إذا كنت ضحية لتعليق جنائي على موقع إخباري، فهناك خطوات عملية وقانونية يمكنك اتخاذها لحماية حقوقك وملاحقة المسؤولين عن هذا الضرر. يجب اتخاذ هذه الخطوات بدقة لضمان فعالية الإجراءات القانونية.

توثيق التعليقات المسيئة والأدلة الرقمية

الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي توثيق التعليق المسيء بشكل شامل. يجب أخذ لقطات شاشة (screenshots) للتعليق، مع ظهور اسم الموقع ورابط المقال والتاريخ والوقت. يجب التأكد من وضوح الصورة.

يمكن أيضاً تصوير فيديو قصير لصفحة التعليق مع إظهار الرابط في شريط العنوان. هذه الأدلة الرقمية ضرورية جداً عند تقديم أي بلاغ أو دعوى قضائية.

الإبلاغ عن التعليق للموقع الإخباري

قبل اللجوء إلى السلطات، يُنصح بالاتصال بالموقع الإخباري المعني والإبلاغ عن التعليق المسيء. استخدم أدوات الإبلاغ المتاحة على الموقع، أو ابحث عن بريد إلكتروني للشكاوى أو صفحة اتصل بنا.

في رسالتك، وضح طبيعة المخالفة، وأرفق الأدلة التي قمت بتوثيقها. احتفظ بنسخة من المراسلات بينك وبين الموقع، فهذا يُثبت أنك قمت بدورك في إبلاغهم.

تقديم بلاغ رسمي للنيابة العامة

إذا لم يستجب الموقع أو لم يتم حذف التعليق، أو إذا كان الضرر كبيراً، يجب التوجه إلى النيابة العامة لتقديم بلاغ رسمي. يُمكن تقديم البلاغ في قسم الشرطة التابع لمحل إقامتك أو عبر مباحث الإنترنت.

أثناء تقديم البلاغ، قدم جميع الأدلة التي جمعتها، واشرح تفاصيل الواقعة والضرر الذي لحق بك. سيتم إحالة البلاغ إلى جهات التحقيق المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.

رفع دعوى قضائية مدنية وجنائية

بعد انتهاء التحقيقات، قد تُحال القضية إلى المحكمة الجنائية لمحاكمة الشخص مرتكب الجريمة. يُمكنك في هذه الحالة الانضمام كمدعٍ بالحق المدني للمطالبة بالتعويض عن الأضرار.

بالإضافة إلى ذلك، يُمكنك رفع دعوى مدنية مستقلة أمام المحكمة المختصة للمطالبة بتعويض مدني عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بك نتيجة التعليق المسيء.

عناصر إضافية لحماية شاملة

لضمان بيئة رقمية أكثر أماناً، يجب تبني استراتيجيات متكاملة لا تقتصر على الجانب القانوني فقط، بل تشمل التكنولوجيا والتوعية المستمرة. هذه العناصر تُعزز قدرة المواقع والمتضررين على التعامل مع التحديات.

دور الذكاء الاصطناعي في فلترة التعليقات

تُقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي حلولاً متقدمة لفلترة التعليقات. يمكن لهذه الأنظمة تحليل المحتوى اللغوي للتعليقات وتحديد الكلمات أو العبارات التي تُشير إلى السب أو القذف أو التحريض.

تُساعد هذه الأدوات في اكتشاف التعليقات المسيئة بشكل أسرع وأكثر دقة مما يُقلل من العبء على المشرفين البشر ويُوفر استجابة فورية للمحتوى الضار قبل أن يتسبب في ضرر كبير.

التوعية القانونية للمستخدمين والمشرفين

يجب على المواقع الإخبارية أن تتبنى حملات توعية مستمرة لمستخدميها حول خطورة التعليقات الجنائية والعواقب القانونية المترتبة عليها. يمكن ذلك من خلال نشر مقالات توعوية أو رسائل تحذيرية.

كما يجب أن يتم تحديث معلومات المشرفين القانونية باستمرار حول أحدث التشريعات والأحكام القضائية المتعلقة بجرائم الإنترنت لضمان تطبيق القوانين بفعالية.

أفضل الممارسات الدولية في إدارة التعليقات

الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في إدارة التعليقات يمكن أن يُثري سياسات المواقع الإخبارية المصرية. تتضمن هذه الممارسات الشفافية في سياسات التعليق، وتوفير آليات إبلاغ متعددة، والتعاون الفعال مع الجهات القانونية.

كما أن الاستثمار في تقنيات الفلترة المتطورة والتحقق من الهوية يمكن أن يُقلل من انتشار التعليقات المسيئة. السعي لتطبيق هذه الممارسات يُعزز من بيئة المحتوى الرقمي الآمن.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock