الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصري

الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية

الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية

مفهومه، أهميته، وكيفية الدفع به في المحاكم المصرية

يُعد الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية ركيزة أساسية في صون العدالة وضمان محاكمة عادلة، خاصة في القضايا التي تتطلب بطبيعتها خبرة متخصصة. يواجه القضاء تحدياً كبيراً عند الاعتماد على الشهادات الشفهية أو الإقرارات وحدها في مسائل فنية معقدة، حيث قد تؤدي هذه الأدلة المجردة إلى أحكام غير دقيقة أو حتى خاطئة. يستعرض هذا المقال الطرق والحلول لتقديم هذا الدفع بفعالية، مؤكداً على ضرورة البحث عن براهين تقنية لدعم المزاعم أو نفيها، ويقدم خطوات عملية للمحامين والمترافعين لتعزيز موقفهم القانوني في مثل هذه الدعاوى.

مفهوم الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية والفنية

تعريف الأدلة القولية والفنية

الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنيةالأدلة القولية هي تلك التي تستند إلى أقوال الأشخاص، سواء كانوا شهوداً، متهمين، أو أطرافاً في الدعوى. تشمل الشهادات الشفهية، الاعترافات، والإقرارات. في المقابل، تشمل الأدلة الفنية كل ما يتطلب خبرة متخصصة لا تتوفر عادة للقاضي أو الأشخاص العاديين، مثل تقارير الطب الشرعي، الخبرة الهندسية، التحاليل الكيميائية، أو تقارير فحص المستندات والأدلة الرقمية. هذه الأدلة ضرورية لتفسير وقائع تحتاج إلى فهم علمي أو تقني دقيق، وتساعد في الكشف عن الحقيقة بموضوعية أكبر.

الفارق الجوهري بينهما يكمن في طبيعة المصدر ومدى حاجته للتأويل. الأدلة القولية يمكن أن تتأثر بعوامل بشرية كالنسيان أو التحيز أو التضليل، بينما الأدلة الفنية تستند إلى أسس علمية وقياسات دقيقة، مما يجعلها أكثر قوة وموثوقية في كثير من الأحيان. لا يعني هذا التقليل من شأن الأدلة القولية، بل التأكيد على أن بعض الوقائع لا يمكن إثباتها بشكل قاطع إلا من خلال قرائن فنية مستقلة تؤيدها أو تدحضها.

الأساس القانوني للدفع

يرتكز الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية على مبادئ العدالة والمنطق القانوني السليم، التي تتطلب أن يكون الاقتناع القضائي مبنياً على أدلة قاطعة لا لبس فيها. على الرغم من أن المشرع المصري منح القاضي سلطة تقدير الأدلة، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة، ويجب أن تكون مبنية على استنتاجات منطقية ومبررة. إذا كانت الأدلة القولية وحدها غير كافية لتكوين قناعة صحيحة بوقوع الجريمة أو ثبوت الحق، خاصة في القضايا ذات الطبيعة الفنية، فإن الدفع يصبح ضرورياً.

كثيراً ما تستند المحاكم في قبول هذا الدفع إلى مبدأ “اليقين القضائي”، الذي يعني أن الحكم لا يجوز أن يبنى على الشك أو الظن. ففي حال وجود وقائع لا يمكن للمحكمة الفصل فيها إلا بالاستعانة بخبراء متخصصين، وعدم وجود تقارير فنية تدعم أو تفند الأقوال، فإن طلب الخبراء يصبح حقاً للمتهم أو المدعى عليه، أو حتى ضرورة تراها المحكمة. هذا الدفع يحمي حقوق الدفاع ويضمن أن تبت المحكمة في القضية استناداً إلى الحقيقة المادية المدعومة بالبراهين العلمية.

حالات تطبيق الدفع وأهميته

متى يكون الدفع ضرورياً؟

يصبح الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية ضرورياً وحاسماً في عدة حالات، أبرزها القضايا التي تتطلب تحديد أسباب أو ملابسات لا يمكن استخلاصها إلا بمعرفة علمية أو تقنية. على سبيل المثال، في قضايا حوادث الطرق المعقدة، قد تكون شهادات الشهود متضاربة، بينما تقرير الخبير الهندسي المروري يمكنه تحديد المتسبب بدقة بناءً على تحليل مسرح الحادث والأضرار. كذلك، في قضايا التزوير، لا تكفي أقوال الشاهد لتأكيد صحة التوقيع أو نفيه، بل يتطلب الأمر خبيراً في الخطوط والمستندات.

كما يبرز هذا الدفع في قضايا الخطأ الطبي، حيث يحتاج القاضي إلى رأي الأطباء الشرعيين لتحديد ما إذا كان هناك إهمال طبي أو خطأ في التشخيص أو العلاج. وفي الجرائم الإلكترونية، لا يمكن فهم كيفية ارتكاب الجريمة أو تحديد الفاعل دون الاستعانة بخبراء في الأمن السيبراني والتحقيقات الرقمية. إن تجاهل الحاجة إلى هذه الأدلة الفنية يضع الحكم القضائي في مهب الشك، ويفتح الباب أمام احتمال الإدانة أو تضييع الحقوق بناءً على أدلة غير كافية أو قابلة للتأويل الخاطئ.

أمثلة عملية من قضايا مختلفة

تتعدد الأمثلة العملية على أهمية هذا الدفع في مختلف أنواع القضايا. في القضايا الجنائية، قد يُتهم شخص بالقتل، وتدلي شهادة شاهد بأنه رأى المتهم في مسرح الجريمة، لكن تقرير الطب الشرعي هو من يحدد سبب الوفاة الحقيقي، أداة الجريمة، ووقت الوفاة، مما قد يدحض الشهادة أو يؤكدها. وفي قضايا السرقة، قد يشير شاهد إلى رؤيته للمتهم، لكن الأدلة البصمية أو الرقمية هي التي تؤكد أو تنفي وجود المتهم في المكان.

في القضايا المدنية، مثلاً، في دعاوى التعويض عن عيب في البناء، لا تكفي أقوال الجيران أو الملاك لإثبات وجود العيب أو تحديد سببه، بل لا بد من تقرير خبير هندسي يوضح طبيعة العيب، مدى خطورته، والمسؤول عن حدوثه. وفي قضايا الملكية الفكرية، كالاعتداء على براءة اختراع أو علامة تجارية، فإن الدفع بضرورة اللجوء لخبير متخصص في المجال الفني ذاته لا غنى عنه لتحديد ما إذا كان هناك اعتداء أم لا. هذه الأمثلة توضح كيف أن الحلول تكمن في التكامل بين الأدلة، ورفض الاكتفاء بالقولي عند الحاجة للفني.

خطوات الدفع بعدم الجدوى

الإعداد القانوني للدفع

لتقديم الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية بفعالية، يتطلب الأمر إعداداً قانونياً محكماً. تبدأ هذه الخطوة بتحليل دقيق لوقائع الدعوى والأدلة المقدمة. يجب على المحامي تحديد النقاط التي تعتمد فيها الأدلة القولية بشكل كبير على تأويل أو استنتاج يتطلب خبرة فنية. يجب مراجعة ما إذا كانت هذه الأدلة القولية متماسكة ومنطقية في سياق القضية، أم أنها تشوبها تناقضات أو غموض لا يمكن حله إلا من خلال رأي خبير.

البحث في السوابق القضائية والأحكام المشابهة التي قبلت فيها المحاكم هذا الدفع يُعد جزءاً لا يتجزأ من الإعداد. كما يجب تحديد المجال الفني المحدد الذي يحتاج إلى رأي خبير (مثلاً: الهندسة، الطب، الكيمياء، المعلوماتية) وتوضيح لماذا لا يمكن للمحكمة الفصل في هذه النقاط بمعرفتها الذاتية أو بناءً على الأدلة القولية وحدها. صياغة هذه النقاط بوضوح ومنطقية تعزز فرص قبول الدفع من قبل المحكمة.

صياغة مذكرة الدفع

تُعد صياغة مذكرة الدفع خطوة حاسمة في تقديم هذا الدفع. يجب أن تكون المذكرة واضحة، موجزة، ومقنعة. تبدأ بتحديد الدفع بوضوح، ثم سرد الوقائع المتعلقة به، مع التركيز على الجوانب الفنية التي تعجز الأدلة القولية عن تغطيتها. يجب على المحامي أن يشرح بالتفصيل لماذا تعتبر الأدلة القولية في هذه الحالة غير كافية أو غير موثوقة دون دعم فني.

يجب أن تتضمن المذكرة إشارة إلى المواد القانونية التي تدعم حق الأطراف في طلب الخبرة، أو التي تؤكد على ضرورة استناد الأحكام إلى أدلة يقينية. من المهم أيضاً أن تتضمن المذكرة طلباً محدداً ومبرراً للمحكمة بندب خبير في مجال معين، مع تحديد المهام التي يُطلب من الخبير القيام بها. يجب تجنب العموميات والتركيز على النقاط الفنية الجوهرية التي تؤثر في حقيقة النزاع.

تقديم الدفع أمام المحكمة

يتم تقديم الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية في المراحل المناسبة من الدعوى. يمكن تقديمه في مذكرة الدفاع الأولى، أو خلال سير الجلسات عندما يتضح للمحكمة أو لأحد الأطراف أن الأدلة القولية وحدها لن تكون كافية للبت في القضية. يجب على المحامي اختيار التوقيت الأمثل لتقديم الدفع، بحيث يكون مؤثراً ويتمكن من إقناع المحكمة بضرورته.

عند تقديم الدفع شفهياً في الجلسة، يجب أن يكون المحامي مستعداً لشرح حججه بوضوح ومنطقية، مؤكداً على أن الهدف هو الوصول إلى الحقيقة وإقامة العدل، وليس مجرد تعطيل سير الدعوى. يفضل دائماً أن يكون الدفع مدعوماً بمذكرة مكتوبة تفصيلية، لضمان تسجيله بشكل صحيح في ملف الدعوى، ولتمكين المحكمة من دراسته بعناية قبل اتخاذ قرارها بشأن ندب الخبير أو قبول الدفع برمته.

طرق تعزيز الدفع وسبل النجاح

الاستعانة بالخبراء

لتعزيز الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية، يُعد الاستعانة بخبير استشاري خاص خطوة استباقية وفعالة. يمكن للمحامي التعاقد مع خبير في المجال المطلوب ليُقدم رأياً استشارياً أو تقريراً مبدئياً يدعم الحاجة للخبرة القضائية. هذا التقرير، وإن لم يكن ملزماً للمحكمة، يمكن تقديمه كدليل استرشادي يوضح للمحكمة مدى تعقيد المسألة الفنية وأنها تتجاوز قدرة القضاة على الفصل فيها دون مساعدة متخصصة.

التقرير الاستشاري يساعد في إبراز الثغرات في الأدلة القولية، ويقدم تفسيراً فنياً للوقائع قد يتناقض مع السرد القولي، مما يدفع المحكمة نحو التفكير بجدية في ندب خبير قضائي. كما أن وجود رأي فني أولي يعطي المحامي أساساً قوياً للدفاع، ويساعده في صياغة الأسئلة التي يجب توجيهها للخبير القضائي، مما يضمن أن تكون الخبرة شاملة ومغطية لجميع جوانب النزاع الفنية.

تحليل الثغرات في الأدلة

يجب على المحامي إجراء تحليل دقيق للأدلة القولية المقدمة في الدعوى، للكشف عن أي ثغرات أو تناقضات أو نقاط ضعف يمكن أن تستلزم رأياً فنياً. هذا التحليل يشمل استجواب الشهود بدقة، البحث عن التناقضات في أقوالهم، ومقارنة هذه الأقوال بالقرائن المادية المتاحة. إذا كانت هناك أقوال غير منطقية أو تتعارض مع قوانين الطبيعة أو الحقائق العلمية، يجب تسليط الضوء عليها كدليل على أن هذه الأقوال وحدها غير كافية.

على سبيل المثال، إذا ادعى شاهد رؤيته لحدث في ظروف إضاءة معينة أو من مسافة بعيدة جداً، يمكن للمحامي الدفع بأن الرؤية مستحيلة فنياً في تلك الظروف، مما يستدعي رأي خبير في البصريات أو الفيزياء. هذا النوع من التحليل لا يقتصر على نقد الأدلة القولية فحسب، بل يوضح بوضوح لماذا يتوجب اللجوء إلى الأدلة الفنية لفك غموض الوقائع وتقديم حلول منطقية للمشاكل المثارة.

أمثلة لحلول بسيطة ومنطقية

في كثير من الأحيان، يمكن توفير حلول بسيطة ومنطقية لإثبات الحاجة إلى الأدلة الفنية. فمثلاً، في دعاوى حوادث السيارات، قد تكون الأدلة القولية (شهادات السائقين والشهود) متضاربة حول سرعة السيارات أو مكان الاصطدام. هنا، يمكن أن يكون الحل البسيط هو طلب المعاينة الفنية لمكان الحادث، وتصوير آثار الفرامل، وحطام السيارات، وقياس المسافات. هذه المعلومات البسيطة، عندما يحللها خبير هندسي مروري، تصبح أدلة فنية قاطعة تفصل في النزاع.

مثال آخر: في قضايا الجرائم الإلكترونية، قد يُتهم شخص باختراق حساب، لكن شهادة المجني عليه وحدها قد لا تكون كافية. الحل المنطقي هو طلب تقرير فني من خبير رقمي يفحص السجلات الإلكترونية، عناوين الـ IP، وتتبع حركة البيانات. هذه الإجراءات، وإن بدت معقدة، هي الحل الأمثل والوحيد لإثبات أو نفي التهمة، وتوفر طريقة عملية وواضحة للوصول إلى الحقيقة بعيداً عن مجرد الأقوال الظنية.

نتائج قبول الدفع وآثاره

الآثار القانونية على الدعوى

عندما تقبل المحكمة الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية، فإن هذا يؤدي إلى آثار قانونية جوهرية على مسار الدعوى. أولاً، قد تصدر المحكمة قراراً بندب خبير أو لجنة خبراء متخصصين في المجال المطلوب، لتوضيح النقاط الفنية الغامضة. هذا القرار يعلق سير الدعوى لحين تقديم تقرير الخبرة، ويعطي فرصة لتقديم أدلة أكثر موضوعية ودقة. ثانياً، في حال عدم توافر الإمكانية لندب خبير أو إصرار المحكمة على عدم الحاجة لذلك رغم إثبات الطرف الطالب لضرورته، فقد يؤثر ذلك على اقتناع المحكمة بالأدلة القولية.

قد يؤدي قبول الدفع في بعض الحالات إلى الحكم بالبراءة في القضايا الجنائية، أو رفض الدعوى في القضايا المدنية، إذا كانت الأدلة القولية هي الأساس الوحيد للإدانة أو إثبات الحق، وتبين أنها غير كافية وغير مدعومة بأي قرائن فنية ضرورية. هذا يضمن حماية حقوق الدفاع ويحمي المتهمين من الإدانة بناءً على أدلة ضعيفة، أو يمنع إصدار أحكام مدنية مبنية على أسس غير راسخة. الحلول هنا تنبني على إعادة تقييم الأدلة من منظور أوسع.

الحفاظ على العدالة وحقوق الدفاع

يُعتبر الدفع بعدم جدوى الأدلة القولية دون فنية آلية قانونية بالغة الأهمية للحفاظ على مبدأ العدالة الجنائية والمدنية، وصون حقوق الدفاع. ففي النظام القانوني المصري، مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” يتطلب أدلة قاطعة لا تدع مجالاً للشك. عندما تكون طبيعة القضية تتطلب معرفة فنية، فإن عدم وجود هذه الأدلة يخل بميزان العدل ويهدد حقوق الأفراد في محاكمة عادلة وعادلة.

بتفعيل هذا الدفع، يتم إجبار المحكمة على البحث عن الحقيقة المادية من خلال الأدوات العلمية والتقنية المتاحة، بدلاً من الاكتفاء بالاستماع إلى الأقوال التي قد تكون عرضة للخطأ أو التحريف. هذا يؤكد على أهمية البحث الشامل والدقيق في كافة جوانب القضية، ويوفر حماية إضافية للأفراد ضد الأحكام المبنية على التخمين أو الأدلة غير الموثوقة. إنه ضمانة أساسية لعدم تضييع الحقوق وتأكيد العدل في القضاء المصري، من خلال توفير حلول إثباتية متكاملة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock