الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالقانون الجنائيالقانون المصريقانون الشركات

هل يجوز مساءلة الشركة عن جريمة موظف؟

هل يجوز مساءلة الشركة عن جريمة موظف؟

مفهوم المسؤولية الجنائية للشركات وكيفية إثباتها ودفعها في القانون المصري

تعد مسألة مساءلة الشركات عن الجرائم التي يرتكبها موظفوها من القضايا القانونية المعقدة والحيوية في القانون المصري. فبينما يميل الفهم الأولي إلى أن المسؤولية الجنائية شخصية وتلتصق بالفاعل المباشر، فإن التطورات القانونية الحديثة أتاحت إمكانية مساءلة الكيانات الاعتبارية عن الأفعال غير المشروعة لموظفيها أو ممثليها. يهدف هذا المقال إلى تقديم حلول عملية وشاملة لفهم كيفية إثبات هذه المسؤولية، وطرق دفعها، والإجراءات الوقائية التي يمكن للشركات اتخاذها للحد من تعرضها للمساءلة الجنائية.

مفهوم المسؤولية الجنائية للشركات في القانون المصري

هل يجوز مساءلة الشركة عن جريمة موظف؟
ينص القانون المصري صراحة أو ضمنًا في بعض مواده على إمكانية مساءلة الشخص الاعتباري (الشركة) جنائياً عن الأفعال التي ترتكب باسمه أو لحسابه. هذه المسؤولية لا تعني إفلات الفاعل الطبيعي (الموظف) من المسؤولية، بل تكون غالباً مسؤولية تضامنية أو مستقلة. يرتكز هذا المفهوم على فكرة أن الشركة يمكن أن يكون لها إرادة مستقلة أو أن تكون بيئة محفزة لارتكاب الجرائم.

تتجسد هذه المسؤولية في أنواع مختلفة من الجرائم، لا سيما الجرائم الاقتصادية، وجرائم بيئة العمل، وجرائم الإنترنت، والجرائم المتعلقة بالمال العام، وغيرها من الجرائم التي يمكن أن تقع ضمن إطار نشاط الشركة. يجب التمييز بين مسؤولية الشركة الناشئة عن تقصير إداري ومسؤوليتها عن أفعال إجرامية ارتكبت بقصد تحقيق مصلحة للكيان.

تعالج التشريعات المصرية الحديثة، مثل قانون الشركات والقوانين المتعلقة بمكافحة الجرائم الإلكترونية وغسل الأموال، جوانب المسؤولية الجنائية للشركات بشكل أكثر تفصيلاً. يتمثل الهدف الأساسي من هذه المسؤولية في تحقيق الردع العام والخاص، وضمان التزام الشركات بالقوانين، والمساهمة في بيئة عمل قانونية وأخلاقية.

شروط إثبات مسؤولية الشركة عن جريمة الموظف

لتحميل الشركة المسؤولية الجنائية عن جريمة ارتكبها أحد موظفيها، يجب توافر عدة شروط أساسية، تختلف في تفاصيلها باختلاف طبيعة الجريمة والنص القانوني المنظم لها. يعد فهم هذه الشروط ضروريًا للمدعين لإثبات الدعوى وللشركات للدفاع عن نفسها.

1. ارتكاب الجريمة من قبل شخص تابع للشركة

يشترط أن يكون مرتكب الفعل الإجرامي موظفًا أو عاملاً أو ممثلاً للشركة، سواء كان مديرًا، عضو مجلس إدارة، أو عامل عادي. الأهم هو وجود علاقة تبعية أو تمثيل قانوني بين الفاعل والشركة. لا يقتصر الأمر على العلاقة الرسمية فقط، بل قد يشمل المتعاقدين الذين يعملون تحت توجيه وإشراف الشركة بشكل فعلي.

يجب التحقق من صفة الفاعل وقت ارتكاب الجريمة، وهل كان يعمل ضمن نطاق وظيفته أو بصفته ممثلًا للشركة. في بعض الحالات، قد يكون الفعل خارج نطاق عمله المباشر ولكنه يصب في مصلحة الشركة بشكل غير مباشر، مما يثير تساؤلات حول طبيعة المسؤولية.

2. ارتكاب الجريمة باسم الشركة أو لحسابها

هذا الشرط يعد محورياً. يجب أن يكون الفعل الإجرامي قد ارتكب بقصد تحقيق مصلحة للشركة، أو أن يكون ضمن إطار نشاطها المعتاد، حتى لو كان غير مشروع. لا يشترط أن تكون المصلحة قد تحققت فعلاً، بل يكفي أن يكون القصد هو تحقيقها.

الأمثلة تشمل التهرب الضريبي، أو تقديم رشاوى للحصول على عقود، أو تزوير مستندات لتحقيق مكاسب للشركة. إذا ارتكب الموظف الجريمة لمصلحته الشخصية البحتة دون أي نفع للشركة، فإن مسؤولية الشركة قد تنتفي، إلا إذا كانت قد سهلت ارتكاب الجريمة بتقصير إداري جسيم.

3. موافقة الشركة أو علمها أو إهمالها الجسيم

في بعض التشريعات والاجتهادات القضائية، يشترط أن يكون للشركة علم بالجريمة، أو أن تكون قد وافقت عليها صراحة أو ضمناً، أو أن يكون إهمالها الجسيم في الرقابة أو الإشراف قد أدى إلى وقوع الجريمة. هذا العنصر يربط بين الفعل الإجرامي وإرادة الشركة ككيان.

يمكن إثبات علم الشركة من خلال وثائق داخلية، أو محاضر اجتماعات، أو شهادات، أو نمط سلوك متبع داخل الشركة يشير إلى التغاضي عن المخالفات. الإهمال الجسيم قد يتمثل في عدم وضع ضوابط داخلية كافية، أو عدم تدريب الموظفين، أو عدم الاستجابة لإنذارات سابقة بوجود مخاطر.

طرق دفع المسؤولية الجنائية عن الشركة

في حال توجيه اتهام جنائي لشركة بسبب فعل موظف، توجد عدة طرق للدفاع يمكن للممثل القانوني للشركة الاستناد إليها لدفع هذه المسؤولية أو تخفيفها. يتطلب ذلك إعداد دفاع قانوني محكم وتقديم الأدلة اللازمة.

1. إثبات انتفاء العلاقة الوظيفية أو التبعية

يمكن للشركة أن تدفع المسؤولية بإثبات أن الفاعل لم يكن موظفًا لديها وقت ارتكاب الجريمة، أو أنه لم يكن يعمل تحت توجيهها وإشرافها بشكل مباشر، أو أن العلاقة كانت مقطوعة. يتم ذلك بتقديم عقود العمل، سجلات الحضور والانصراف، أو أي وثائق تثبت وضع الفاعل القانوني.

مثال ذلك، إذا كان الفاعل مقاولًا مستقلاً يقوم بعمله بغير تبعية للشركة ولا يخضع لإشرافها المباشر في تفاصيل العمل، فقد يصعب تحميل الشركة مسؤولية أفعاله، إلا إذا كان الفعل نتيجة تعليمات محددة من الشركة.

2. إثبات أن الجريمة لم ترتكب باسم الشركة أو لحسابها

يعد هذا من أقوى دفوع المسؤولية. يمكن للشركة أن تثبت أن الجريمة ارتكبت لمصلحة شخصية للموظف، أو بدافع كراهية، أو لأي سبب لا يعود بالنفع على الشركة، ولا علاقة له بنشاطها التجاري أو سعيها لتحقيق أرباح.

يجب تقديم أدلة قاطعة على أن الفعل كان خارج نطاق السلطة الممنوحة للموظف، وأنه لم يكن يهدف إلى خدمة أهداف الشركة أو تحقيق مصلحة لها. مثال على ذلك، موظف يسرق أموالًا من الشركة لنفسه وليس لتحقيق مكسب للشركة.

3. إثبات اتخاذ الشركة للإجراءات الوقائية والرقابية الكافية

يمكن للشركة أن تدفع المسؤولية بإثبات أنها قد اتخذت جميع الإجراءات المعقولة والضرورية لمنع وقوع الجريمة، وأنها وضعت سياسات وإجراءات رقابية داخلية فعالة. يشمل ذلك:

أ. وضع لوائح وسياسات داخلية واضحة:

تتضمن مدونة سلوك الموظفين، وسياسات مكافحة الفساد، ومكافحة غسل الأموال، والالتزام بالقوانين.

ب. برامج تدريب وتوعية دورية:

تدريب الموظفين على القوانين واللوائح ذات الصلة وعلى أهمية الالتزام الأخلاقي والقانوني.

ج. أنظمة رقابة داخلية فعالة:

تطبيق آليات لمراجعة الأداء المالي والإداري بشكل دوري، واكتشاف أي مخالفات أو تجاوزات.

د. التحقيق الفوري في الشكاوى والإبلاغ:

إظهار أن الشركة اتخذت إجراءات جادة فور علمها بأي مخالفة أو شبهة جريمة، وقامت بالتحقيق فيها والإبلاغ عنها للجهات المختصة.

هذا الدفاع يثبت أن الشركة لم تكن متواطئة أو مهملة بشكل جسيم، بل فعلت ما بوسعها لمنع حدوث الجريمة.

إجراءات وقائية للحد من مسؤولية الشركة

تعد الوقاية خير من العلاج، وبالنسبة للشركات، فإن اتخاذ إجراءات استباقية يمكن أن يقلل بشكل كبير من مخاطر التعرض للمساءلة الجنائية بسبب أفعال الموظفين. هذه الإجراءات لا تحمي الشركة فحسب، بل تعزز أيضاً سمعتها وثقة المستثمرين فيها.

1. تأسيس ثقافة امتثال قوية

يجب على الشركات أن تضع ثقافة داخلية تركز على الالتزام بالقانون والأخلاق في جميع المستويات.

أ. مدونة سلوك شاملة:

صياغة وتوزيع مدونة سلوك واضحة تتناول كافة الجوانب القانونية والأخلاقية، مع التأكيد على العقوبات المترتبة على المخالفة.

ب. التزام القيادة العليا:

يجب أن تظهر الإدارة العليا التزاماً حقيقياً بالامتثال، وأن تكون قدوة للموظفين في تطبيق القواعد.

2. برامج تدريب وتوعية مستمرة

تدريب الموظفين بشكل دوري على القوانين واللوائح ذات الصلة بنشاط الشركة، وعلى سياسات الامتثال الداخلية.

أ. ورش عمل متخصصة:

تنظيم ورش عمل وندوات تركز على مخاطر الجرائم المحتملة وكيفية تجنبها.

ب. تحديث المعلومات:

ضمان تحديث الموظفين بأي تغييرات قانونية أو تنظيمية قد تؤثر على عملهم ومسؤولياتهم.

3. تطبيق أنظمة رقابة داخلية فعالة

وضع آليات رقابة مالية وإدارية قوية للكشف عن أي مخالفات أو أنشطة مشبوهة.

أ. تدقيق داخلي منتظم:

إجراء عمليات تدقيق دورية على العمليات والإجراءات للتأكد من الالتزام بالسياسات والقوانين.

ب. فصل المهام:

تطبيق مبدأ فصل المهام لتقليل فرص التلاعب أو الاختلاس.

ج. حماية المبلغين عن المخالفات:

إنشاء قنوات آمنة للموظفين للإبلاغ عن أي مخالفات أو شبهات جرائم دون خوف من الانتقام.

4. المراجعة القانونية الدورية

الاستعانة بمستشارين قانونيين متخصصين لمراجعة عقود الشركة وإجراءاتها وسياساتها بشكل دوري.

أ. تقييم المخاطر القانونية:

إجراء تقييم شامل للمخاطر القانونية المحتملة التي قد تواجهها الشركة بسبب طبيعة عملها.

ب. تحديث الوثائق القانونية:

ضمان أن جميع العقود والوثائق القانونية تتوافق مع أحدث التشريعات.

الخلاصة والتوصيات

تعتبر مساءلة الشركة عن جريمة موظف مسألة قانونية حيوية تتطلب فهماً عميقاً للتشريعات المصرية وآليات تطبيقها. من خلال هذا المقال، وضحنا الشروط الأساسية لإثبات هذه المسؤولية، وطرق الدفاع المتاحة للشركات، بالإضافة إلى الإجراءات الوقائية التي يجب اتخاذها للحد من التعرض للمخاطر الجنائية.

ننصح الشركات بضرورة الاستثمار في أنظمة امتثال قوية وفعالة، وتوفير التدريب المستمر للموظفين، والحرص على تطبيق الرقابة الداخلية بشكل صارم. كما نؤكد على أهمية الاستعانة بالاستشارات القانونية المتخصصة بشكل دوري، لضمان الامتثال الدائم للقوانين وتحديث السياسات الداخلية بما يتوافق مع أحدث المستجدات التشريعية والقضائية. هذه الخطوات لا تحمي الشركة من المساءلة القانونية فحسب، بل تعزز أيضاً بيئة عمل صحية وآمنة للجميع.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock