الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين

مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين

ضمانة أساسية للعدالة الجنائية وتطبيقاته العملية

يُعد مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين، المعروف عالمياً بمبدأ “Ne Bis In Idem”، ركيزة أساسية من ركائز العدالة الجنائية في الأنظمة القانونية الحديثة. يهدف هذا المبدأ إلى حماية الأفراد من التعرض لمحاكمات متكررة وغير منتهية عن ذات الفعل الإجرامي، مما يضمن لهم استقرار أوضاعهم القانونية ويمنع إرهاقهم بسلسلة لا نهائية من الإجراءات القضائية. إن فهم هذا المبدأ وشروط تطبيقه وكيفية التمسك به يمثل ضرورة لكل من المتهمين والمحامين والجهات القضائية على حد سواء. يتناول هذا المقال آليات تطبيق هذا المبدأ الهام، مستعرضاً شروطه، طرق التمسك به، وتطبيقاته العملية لتقديم حلول واضحة لمشكلات قد تنشأ بشأنه.

مفهوم مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين وأهميته

التعريف القانوني والأصل التاريخي للمبدأ

مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتينينص مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين على أنه لا يجوز محاكمة أي شخص أو معاقبته مجدداً عن فعل سبق وأن صدر بشأنه حكم نهائي وبات سواء بالإدانة أو البراءة. تعود جذور هذا المبدأ إلى القانون الروماني، وقد تبنته معظم التشريعات الحديثة، بما في ذلك القانون المصري، وأصبح معترفاً به كضمانة أساسية لحقوق الإنسان في المواثيق الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. هذا المبدأ يجسد قناعة المجتمع بضرورة إنهاء النزاعات القضائية بعد الفصل فيها بحكم بات.

الأهمية والغاية من المبدأ

تتمثل أهمية هذا المبدأ في كونه يوفر حماية جوهرية للفرد من تعسف السلطة في إعادة المحاكمة أو المعاقبة، ويمنع التنكيل بالمتهم. كما يساهم في إرساء مبدأ استقرار المراكز القانونية وتفادي تضارب الأحكام القضائية، مما يعزز ثقة الجمهور في نزاهة وفعالية النظام القضائي. إنه يضمن أن يكون للفصل في الدعوى الجنائية كلمة أخيرة وحاسمة، مما ينهي حالة عدم اليقين القانوني. هذه الغاية تضمن أن يسود الأمن القانوني ولا يكون هناك مجال للمحاكمات اللانهائية.

الشروط الأساسية لتطبيق مبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة

وحدة الفعل الإجرامي

يعد شرط وحدة الفعل الإجرامي جوهرياً لتطبيق مبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة. لا يكفي أن يكون هناك تشابه في الوصف القانوني، بل يجب أن يكون الفعل المادي الذي قامت عليه المحاكمة الأولى هو ذاته الفعل المادي الذي تتم المحاكمة الثانية عنه. يتم التحقق من وحدة الفعل من خلال العناصر المكونة للواقعة الإجرامية وتاريخها ومكانها والأشخاص المشاركين فيها، بغض النظر عن الوصف القانوني الذي قد تسبغه النيابة العامة أو المحكمة. الحل هنا هو التدقيق في تفاصيل الواقعة المادية نفسها.

وحدة الأشخاص (المتهم)

يشترط أن يكون المتهم في الدعوى الجديدة هو ذات المتهم الذي سبق وأن صدر ضده حكم بات عن نفس الفعل. هذا الشرط منطقي، فالمبدأ يهدف إلى حماية الفرد من المحاكمة المكررة. إذا تعدد المتهمون في ذات الواقعة، فإن الحكم الصادر بحق أحدهم لا يمنع محاكمة الآخرين، إلا إذا كان الحكم الأول قد فصل في ذات الفعل المادي الذي ينسب إليهم جميعاً وأدى إلى براءتهم مجتمعين. يجب على المحكمة التأكد من هوية المتهم بشكل دقيق عبر السجلات الرسمية.

وحدة السبب القانوني (التكييف القانوني)

يشير هذا الشرط إلى أن يكون الأساس القانوني للمحاكمة الثانية هو ذاته الأساس القانوني أو ذات مجموعة الحقائق التي قامت عليها المحاكمة الأولى. بمعنى آخر، يجب أن تكون التهمة الجديدة ناجمة عن نفس الوقائع التي أُثيرت في الدعوى الأولى، حتى لو اختلف الوصف القانوني للجريمة. فإذا كانت المحكمة قد فصلت في وقائع معينة، فلا يجوز إعادة محاكمة الشخص بناءً على نفس الوقائع بوصف قانوني مختلف لنفس الجريمة. هذا يضمن عدم استغلال إعادة التكييف القانوني للتحايل على المبدأ.

صدور حكم بات (نهائي) في الدعوى الأولى

لا يسري مبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة إلا إذا كان الحكم الصادر في الدعوى الأولى حكماً باتاً، أي غير قابل للطعن بالطرق العادية وغير العادية (استئناف، نقض). فإذا كان الحكم لا يزال قابلاً للطعن، فإن الدعوى تعتبر مستمرة ولا تكون قد انتهت بشكل نهائي، وبالتالي لا يمكن التمسك بالمبدأ. يجب التأكد من استنفاد كافة درجات التقاضي المتاحة قبل الدفع بهذا المبدأ، حيث يعتبر هذا شرطاً أساسياً. تقديم نسخة رسمية من الحكم وتاريخ صيرورته باتاً هو الحل العملي.

طرق التمسك بالمبدأ والدفوع القانونية المتعلقة به

الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها

يعد الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها هو الآلية القانونية الرئيسية للتمسك بمبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة. يجب على المتهم أو محاميه إثارة هذا الدفع أمام المحكمة في أقرب فرصة ممكنة، ويفضل أن يكون ذلك في بداية الجلسة الأولى للمحاكمة الجديدة. هذا الدفع يُعد من الدفوع الجوهرية التي يجب على المحكمة أن تفصل فيها قبل الخوض في موضوع الدعوى. يجب على المتهم أن يوضح للمحكمة أن الشروط الأربعة لتطبيق المبدأ متوفرة في حالته.

الإجراءات الواجب اتباعها لإثبات الدفع

لإثبات صحة الدفع بعدم جواز نظر الدعوى، يجب على الطرف المتمسك به أن يقدم للمحكمة الدليل القاطع على وجود حكم بات سابق عن ذات الفعل الإجرامي ونفس المتهم. الحل العملي هو تقديم صورة رسمية من الحكم القضائي الصادر في الدعوى الأولى، مرفقاً به شهادة تثبت أن هذا الحكم قد أصبح باتاً ونهائياً (مثل شهادة بعدم حصول طعن أو شهادة بنتيجة الطعون). يجب أن تتضمن المستندات المقدمة كل التفاصيل التي تثبت تطابق الشروط المطلوبة للمبدأ.

دور المحكمة في التحقق من صحة الدفع

عند إثارة الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها، يتعين على المحكمة أن تتحقق من توافر الشروط القانونية لتطبيقه. يشمل ذلك التدقيق في وقائع الدعوى السابقة ومقارنتها بوقائع الدعوى الجديدة للتأكد من وحدة الفعل والفاعل، وكذلك التأكد من أن الحكم السابق بات ونهائي. إذا رأت المحكمة أن الدفع صحيح، وجب عليها أن تحكم بعدم جواز نظر الدعوى الجديدة. هذه هي الطريقة التي تضمن بها المحكمة تطبيق المبدأ بشكل سليم وحماية حقوق المتهم.

تطبيقات عملية ومواقف يثار فيها المبدأ

حالات إعادة المحاكمة بعد براءة أو إدانة سابقة

المبدأ يطبق بوضوح في الحالات التي يحاول فيها الادعاء إعادة محاكمة شخص بعد صدور حكم بالبراءة أو الإدانة الباتة عن نفس الفعل. فإذا برأت المحكمة متهماً من تهمة معينة بشكل نهائي، فلا يجوز إعادة محاكمته عنها، حتى لو ظهرت أدلة جديدة. كذلك، إذا أدين الشخص وصدر بحقه حكم بات، فلا يجوز محاكمته مجدداً عن نفس الفعل. الحل هنا يكمن في إعطاء الحكم السابق حجيته المطلقة، لضمان حماية المتهم من الملاحقات المتكررة التي لا تنتهي.

التداخل بين الدعوى الجنائية والتأديبية أو المدنية

من المهم التمييز بين الدعوى الجنائية والدعاوى الأخرى. عادةً لا يمنع الحكم الصادر في الدعوى الجنائية عن فعل معين من إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويضات عن الضرر الناجم عن ذات الفعل، أو دعوى تأديبية إذا كان المتهم موظفاً. لأن كل دعوى لها طبيعتها وأهدافها المستقلة. ومع ذلك، قد تؤثر حجية الحكم الجنائي على الدعاوى الأخرى من حيث إثبات الوقائع. يجب على المتقاضين والمحامين فهم هذا التمييز لتجنب الدفوع غير الصحيحة والوصول إلى حلول قانونية فعالة.

تطبيقات المبدأ في الجرائم المتصلة والمتتابعة

يثار المبدأ في بعض الأحيان في سياق الجرائم المتصلة أو المتتابعة. إذا كان هناك فعل إجرامي واحد يتضمن عدة أفعال متتابعة (مثل سرقة متكررة من نفس المكان ضمن مخطط إجرامي واحد) وتمت المحاكمة عنه كفعل واحد، فإن الحكم الصادر بشأنه يمنع إعادة المحاكمة عن أي جزء من هذه الأفعال. الحل هنا يعتمد على كيفية تكييف النيابة العامة للجريمة ووصفها ضمن إطار وحدة المشروع الإجرامي. يجب على المحكمة أن تنظر في السياق الكلي للوقائع لضمان التطبيق السليم للمبدأ.

تجاوز المبدأ والاستثناءات الواردة عليه

حالات نقض الحكم الأول

لا يطبق مبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة إذا تم نقض الحكم الأول من محكمة النقض. ففي هذه الحالة، يعاد فتح الدعوى أمام محكمة الإحالة (عادة محكمة الاستئناف أو الجنايات) لتنظر فيها من جديد. النقض لا يعني محاكمة ثانية عن نفس الفعل، بل هو استمرار للمحاكمة الأولى بعد تصحيح الأخطاء القانونية التي أدت إلى النقض. هنا يكون الحل في أن الدعوى لم تنته بشكل بات، وبالتالي لا يسري المبدأ. يجب على المحامين فهم الفرق بين نقض الحكم وباتية الحكم تماماً.

تعدد الوصف الجنائي لنفس الفعل

في بعض الأحيان، قد يشكل الفعل الواحد عدة جرائم منفصلة لها أركانها المستقلة. فمثلاً، إذا قام شخص بإطلاق النار على آخر فقتله وسرق محفظته، فإن هناك جريمتي قتل وسرقة. إذا تمت محاكمته على إحداهما فقط، فمن حيث المبدأ قد يجوز محاكمته على الأخرى (ما لم تكن إحدى الجريمتين تستغرق الأخرى بالكامل). الحل هنا يكمن في التمييز الدقيق بين أركان الجرائم المختلفة. يجب أن يكون التمييز واضحاً بين الأفعال الجرمية المختلفة التي قد تنشأ من واقعة واحدة، مع الحفاظ على حماية المتهم من المحاكمة المزدوجة.

الجرائم ذات الطابع العابر للحدود

تثير الجرائم العابرة للحدود (مثل الإرهاب الدولي أو غسيل الأموال) تحديات خاصة لمبدأ “Ne Bis In Idem”. فإذا حوكم شخص عن فعل معين في دولة ما، فهل يجوز محاكمته عن ذات الفعل في دولة أخرى؟ تختلف التشريعات الدولية والاتفاقيات الثنائية في معالجة هذه المسألة. بعض الاتفاقيات تنص على عدم جواز المحاكمة المزدوجة بين الدول المتعاقدة، بينما تسمح أخرى بذلك في ظروف معينة. الحل العملي يتطلب الرجوع إلى الاتفاقيات الدولية والمعاملة بالمثل بين الدول لتحديد مدى انطباق المبدأ.

نصائح إضافية لضمان احترام المبدأ

للمحامين

يجب على المحامين التأكد بشكل دقيق من تاريخ العميل القضائي وفحص كافة الأحكام السابقة الصادرة بحقه. الحل يكمن في البحث عن أي سوابق قضائية تتعلق بذات الوقائع والتأكد من صيرورتها باتة. كما يتوجب عليهم إعداد الدفوع اللازمة بخصوص مبدأ عدم جواز المحاكمة المزدوجة وتقديمها في الوقت المناسب وبالمستندات الدالة، مثل صور الأحكام الباتة وشهادات بعدم الطعن. ينبغي للمحامي أن يكون مستعداً لتقديم شرح وافٍ للمحكمة حول انطباق كافة شروط المبدأ.

للقضاة والنيابة العامة

يقع على عاتق القضاة والنيابة العامة مسؤولية كبيرة في احترام وتطبيق هذا المبدأ. على النيابة العامة، قبل توجيه الاتهام، التحقق من عدم وجود حكم سابق بات عن ذات الفعل. وعلى القضاة، عند نظر الدعوى، التثبت من صحة الدفوع المثارة بهذا الشأن والتحقيق فيها بشكل معمق. الحل هنا هو تبني إجراءات فحص دقيقة للسوابق القضائية في كل مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية. هذا يضمن حماية حقوق المتهم ويحافظ على سلامة الإجراءات القضائية من أي انتهاك للمبدأ.

للمتقاضين

ينبغي للمتقاضين أن يكونوا على دراية بحقوقهم القانونية، بما في ذلك الحق في عدم محاكمتهم مرتين عن نفس الفعل. الحل يكمن في أن يقوم المتهم بإبلاغ محاميه أو الجهات القضائية بأي حكم سابق صدر بحقه عن ذات الواقعة. الاحتفاظ بنسخ من الأحكام القضائية الصادرة ضدهم أو لصالحهم يساعد في إثبات الدفع عند الحاجة. طلب الاستشارة القانونية المتخصصة في حالة الشك حول إمكانية تطبيق هذا المبدأ هو خطوة حيوية لضمان عدم ضياع هذا الحق الهام.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock