الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصري

جريمة التسبب في الوفاة نتيجة الإهمال الطبي الجنائي

جريمة التسبب في الوفاة نتيجة الإهمال الطبي الجنائي

الأبعاد القانونية والإجراءات العملية للتعامل معها

تُعد جريمة التسبب في الوفاة نتيجة الإهمال الطبي الجنائي من أخطر الجرائم التي تمس الحق في الحياة، وتثير العديد من التساؤلات القانونية والأخلاقية. يتناول هذا المقال بشمولية مفهوم الإهمال الطبي الذي يؤدي إلى الوفاة من منظور جنائي، موضحًا أركانه وكيفية إثباته، ويقدم حلولًا عملية وخطوات واضحة للمتضررين وأسرهم لضمان الحصول على حقوقهم كاملة وتحقيق العدالة.

مفهوم الإهمال الطبي الجنائي ودرجاته

تعريف الإهمال الطبي الجنائي

جريمة التسبب في الوفاة نتيجة الإهمال الطبي الجنائييُعرف الإهمال الطبي الجنائي بأنه كل فعل أو امتناع عن فعل من جانب الطبيب أو مقدم الرعاية الصحية، يتسم بالتقصير أو الرعونة أو عدم الاحتياط أو عدم مراعاة اللوائح والقوانين، ويترتب عليه وفاة المريض. يشترط أن تكون هناك علاقة سببية مباشرة بين هذا الإهمال والوفاة.

لا يقتصر الإهمال على التقصير المتعمد، بل يشمل أيضًا الأخطاء غير المقصودة التي تنتج عن عدم اتباع الأصول المهنية السليمة أو عدم تطبيق المعايير الطبية المتعارف عليها. الفارق الجوهري بين الإهمال المدني والجنائي يكمن في وجود القصد الجنائي أو الخطأ الجسيم الذي يصل إلى حد الجريمة.

أنواع الإهمال الطبي المؤدي للوفاة

يتخذ الإهمال الطبي صورًا متعددة قد تؤدي إلى الوفاة. من هذه الصور، الخطأ في التشخيص، حيث يتم تشخيص حالة المريض بشكل خاطئ مما يؤدي إلى تأخر العلاج الصحيح وتدهور حالته. كذلك الخطأ في العلاج، ويشمل وصف دواء خاطئ، أو جرعة غير مناسبة، أو إجراء جراحي غير ضروري، أو عدم متابعة حالة المريض بشكل كافٍ.

يشمل الإهمال أيضًا عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة قبل أو أثناء أو بعد التدخل الطبي، مثل عدم تعقيم الأدوات الجراحية، أو عدم إجراء الفحوصات الضرورية قبل الجراحة. سوء المتابعة بعد الجراحة أو العلاج، وعدم التدخل في الوقت المناسب عند ظهور مضاعفات، يعتبر أيضًا شكلاً خطيرًا من الإهمال قد يؤدي إلى نتائج وخيمة.

الأركان القانونية لجريمة التسبب في الوفاة بالإهمال الطبي

الركن المادي للجريمة

يتكون الركن المادي من سلوك الإهمال أو التقصير الذي ارتكبه الطبيب، والنتيجة الإجرامية وهي وفاة المريض، ووجود علاقة سببية مباشرة ومؤكدة بين سلوك الإهمال والوفاة. يجب أن يكون الإهمال هو السبب المباشر الوحيد أو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الوفاة، وليس مجرد عامل عرضي.

يجب على الجهات القضائية أن تتأكد من أن الفعل أو الامتناع عن الفعل الذي قام به الطبيب قد خالف الأصول العلمية والمهنية المستقرة، وأن هذا المخالفة هي التي أدت بشكل مباشر إلى فقدان المريض لحياته. يتطلب ذلك غالبًا الاستعانة بالخبرات الطبية المتخصصة لتحديد مدى التقصير.

الركن المعنوي للجريمة

يتمثل الركن المعنوي في الخطأ غير العمدي الذي يقع فيه الطبيب. فلا يشترط في هذه الجريمة توافر نية القتل، بل يكفي أن يثبت أن الطبيب قد ارتكب خطأ جسيمًا أو إهمالًا فادحًا كان من شأنه أن يؤدي إلى هذه النتيجة، وكان بإمكانه توقعها أو منعها لو بذل العناية الواجبة. يُطلق على هذا الخطأ “الخطأ الجزائي”.

يشمل الخطأ الجزائي الرعونة (التصرف بتهور)، وعدم الاحتياط (عدم أخذ الحيطة اللازمة)، والإهمال (التقصير في أداء الواجب)، وعدم مراعاة القوانين والقرارات واللوائح والأنظمة. كل هذه الصور تدل على عدم الالتزام بالمعايير المهنية التي تفرضها مهنة الطب على ممارسيها، مما يجعلهم مسؤولين جنائيًا عن النتائج المترتبة على تقصيرهم.

الإجراءات القانونية المتبعة في قضايا الإهمال الطبي الجنائي

تقديم البلاغ للنيابة العامة

تعتبر النيابة العامة هي الجهة المختصة بتلقي البلاغات والشكاوى المتعلقة بجرائم الإهمال الطبي التي تؤدي إلى الوفاة. يجب على ذوي المتوفى تقديم بلاغ مفصل يشمل كافة المعلومات المتاحة حول الواقعة، بما في ذلك أسماء الأطباء والمستشفيات المعنية، وتاريخ الوفاة، وأي وثائق طبية متاحة.

يجب أن يتضمن البلاغ شرحًا واضحًا ومختصرًا للظروف التي أحاطت بالوفاة، مع الإشارة إلى أي شبهات حول وجود إهمال طبي. بعد تقديم البلاغ، تبدأ النيابة العامة بالتحقيق في الواقعة، وجمع الأدلة، واستدعاء الشهود، وطلب التقارير الطبية اللازمة من الجهات المختصة، وقد تأمر بتشريح الجثة لتحديد سبب الوفاة بدقة.

دور الطب الشرعي واللجان الطبية المتخصصة

يلعب الطب الشرعي دورًا محوريًا في قضايا الإهمال الطبي الجنائي. حيث يتولى الأطباء الشرعيون فحص جثة المتوفى لتحديد سبب الوفاة المباشر، وما إذا كان هناك ارتباط بين هذا السبب والإجراءات الطبية التي اتخذت. يقومون بإعداد تقارير مفصلة تُعد من أهم الأدلة في القضية.

بالإضافة إلى الطب الشرعي، قد يتم تشكيل لجان طبية متخصصة من نقابة الأطباء أو وزارة الصحة لتقييم مدى التزام الطبيب بالأصول العلمية والمهنية. تقدم هذه اللجان تقارير فنية تحدد ما إذا كان هناك خطأ طبي، وما إذا كان هذا الخطأ يرقى إلى درجة الإهمال الجنائي الذي أدى إلى الوفاة، ومدى العلاقة السببية بينهما.

مراحل التحقيق والمحاكمة

بعد جمع الأدلة وصدور تقارير الطب الشرعي واللجان الطبية، تقوم النيابة العامة باتخاذ قرارها إما بحفظ التحقيق أو إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية المختصة. في حال الإحالة، تبدأ مرحلة المحاكمة حيث يتم عرض القضية أمام القاضي، ويقدم كل طرف أدلته ومرافعاته.

تُعد جلسات المحاكمة فرصة للدفاع عن المتهم وتقديم حججه، وكذلك لعرض الاتهامات وأدلة الإدانة. يمكن للمحكمة أن تستدعي شهودًا آخرين أو تطلب تقارير إضافية لضمان تحقيق العدالة. تستمر المحاكمة حتى يصدر القاضي حكمه النهائي، الذي قد يكون بالإدانة والعقوبة، أو بالبراءة.

كيفية إثبات الإهمال الطبي وجمع الأدلة

جمع الوثائق والسجلات الطبية

إن الخطوة الأولى والأكثر أهمية لإثبات الإهمال الطبي هي جمع كافة الوثائق والسجلات الطبية المتعلقة بحالة المتوفى. يشمل ذلك تقارير الدخول والخروج من المستشفى، نتائج الفحوصات والتحاليل المخبرية، صور الأشعة، كشوف الأدوية الموصوفة، وتقارير العمليات الجراحية إن وجدت.

يجب الحصول على نسخة كاملة وموثقة من الملف الطبي للمريض من المستشفى أو الجهة العلاجية. هذه الوثائق تمثل الدليل الأساسي الذي يعتمد عليه خبراء الطب الشرعي واللجان الطبية لتقييم ما إذا كان هناك إهمال، ومدى تأثيره على صحة المريض ووفاته. الاحتفاظ بنسخ احتياطية من هذه الوثائق أمر ضروري.

الحصول على تقارير الخبرة الطبية

لا يمكن إثبات الإهمال الطبي دون الاستعانة بآراء خبراء الطب. يجب على المتضررين أو محاميهم السعي للحصول على تقارير خبرة طبية مستقلة من أطباء متخصصين في نفس مجال تخصص الطبيب المتهم بالإهمال. يجب أن توضح هذه التقارير بوضوح الأخطاء التي ارتكبت، ومدى مخالفتها للأصول العلمية، والعلاقة السببية بينها وبين الوفاة.

غالبًا ما تكون هذه التقارير هي السند الرئيسي للنيابة العامة والمحكمة في اتخاذ قراراتهما. يجب أن تكون التقارير واضحة ومفصلة ومدعومة بالأدلة العلمية. يُنصح بالتعاون مع محامٍ متخصص في قضايا الإهمال الطبي لضمان اختيار الخبراء المناسبين وتقديم التقارير بالشكل القانوني الصحيح.

الإفادات والشهادات

يمكن أن تكون إفادات الشهود الذين كانوا موجودين أثناء الواقعة أو لديهم معلومات مباشرة عنها ذات قيمة كبيرة في إثبات الإهمال. يشمل ذلك أفراد أسرة المتوفى، أو ممرضين، أو زملاء عمل، أو أي شخص لديه معرفة بالظروف المحيطة بالرعاية الصحية التي تلقاها المريض.

يجب تسجيل هذه الإفادات بشكل دقيق وتقديمها للجهات القضائية. قد تطلب النيابة العامة استدعاء هؤلاء الشهود لسماع أقوالهم تحت القسم. يمكن أن تساعد هذه الشهادات في بناء صورة شاملة للواقعة وتحديد مدى الإهمال الذي حدث، وتكون مكملة للأدلة الفنية والطبية في القضية.

الحلول القانونية والتعويضات المترتبة

العقوبات الجنائية

تختلف العقوبات الجنائية المفروضة على الطبيب المدان بالإهمال الطبي الذي أدى إلى الوفاة حسب تشريعات كل دولة، ولكنها غالبًا ما تتضمن عقوبات بالحبس أو الغرامة. يحدد القانون المصري عقوبات محددة لمثل هذه الجرائم، والتي قد تتراوح بين الحبس لمدد متفاوتة والغرامات المالية الجسيمة.

تهدف هذه العقوبات إلى ردع الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية عن الإهمال، ولضمان التزامهم بالمعايير المهنية والأخلاقية. قد تشمل العقوبات أيضًا سحب ترخيص مزاولة المهنة بشكل مؤقت أو دائم، وهي عقوبة إضافية تهدف إلى حماية المجتمع من الأطباء الذين يثبت إهمالهم الجسيم.

التعويضات المدنية للمتضررين

بالإضافة إلى العقوبات الجنائية، يحق لذوي المتوفى المطالبة بتعويض مدني عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم نتيجة الإهمال الطبي. يشمل التعويض المادي تكاليف العلاج، تكاليف الجنازة، وفقدان الدخل الذي كان يوفره المتوفى لأسرته. أما التعويض المعنوي فيشمل الآلام النفسية والمعاناة التي تعرضت لها الأسرة.

يتم تقدير التعويضات المدنية بناءً على حجم الضرر، ويصدر حكم بها من المحكمة المدنية، سواء كانت الدعوى مرفوعة بشكل مستقل أو بالتبعية للدعوى الجنائية. يمكن أن يكون مبلغ التعويض كبيرًا ويعتمد على عوامل متعددة مثل عمر المتوفى، دخله، وعدد أفراد أسرته الذين كانوا يعتمدون عليه ماليًا.

دور التأمين ضد الأخطاء الطبية

تلعب شركات التأمين ضد الأخطاء الطبية دورًا هامًا في تعويض المتضررين. حيث يقوم العديد من الأطباء والمؤسسات الطبية بالتعاقد مع شركات تأمين لتغطية المسؤولية المدنية عن الأخطاء الطبية. في حال ثبوت الإهمال، تقوم شركة التأمين بدفع التعويضات للمتضررين نيابة عن الطبيب أو المؤسسة الطبية.

هذا يضمن حصول المتضررين على حقوقهم المالية حتى لو كان الطبيب أو المؤسسة الطبية لا يملكون السيولة الكافية لدفع التعويضات. يُنصح المتضررين بالتحقق مما إذا كان الطبيب أو المستشفى مؤمنًا عليه ضد الأخطاء الطبية، وتقديم المطالبة لشركة التأمين المعنية بعد صدور الحكم القضائي.

نصائح وقائية للمتضررين وأسرهم

الاستعانة بمحامٍ متخصص

تعتبر قضايا الإهمال الطبي معقدة للغاية وتتطلب خبرة قانونية وطبية متخصصة. لذا، من الضروري الاستعانة بمحامٍ متخصص في قضايا الأخطاء الطبية، حيث يمتلك المعرفة اللازمة بالقوانين والإجراءات، ويمكنه توجيه الأسرة خلال كافة مراحل القضية، من جمع الأدلة وحتى المحاكمة.

يساعد المحامي في تقييم مدى قوة القضية، وتحديد أفضل السبل لإثبات الإهمال، والتواصل مع الخبراء الطبيين، وتقديم البلاغات والطلبات للنيابة والمحكمة بالشكل الصحيح. كما يتولى المحامي التفاوض حول التعويضات المدنية ويضمن الحصول على أقصى حقوق المتضررين وفقًا للقانون.

توثيق كل التفاصيل

يجب على أفراد الأسرة توثيق كل تفصيل يتعلق بالواقعة، بدءًا من الأعراض الأولى للمرض، مرورًا بكافة الإجراءات الطبية التي اتخذت، وحتى لحظة الوفاة. يشمل ذلك تسجيل التواريخ والأوقات، أسماء الأطباء والممرضين الذين تعاملوا مع الحالة، ووصف دقيق لأي أحداث غير طبيعية أو شكوك بالإهمال.

كما يُنصح بالاحتفاظ بنسخ من جميع الوصفات الطبية، نتائج الفحوصات، والفواتير، وأي مراسلات مع المستشفى أو الأطباء. هذا التوثيق الدقيق يساعد بشكل كبير في بناء ملف القضية، وتقديم صورة واضحة للجهات القضائية والخبراء، ويسهل عملية إثبات الإهمال.

الصبر والمثابرة

إن قضايا الإهمال الطبي الجنائي تستغرق وقتًا طويلًا نظرًا لتعقيداتها وإجراءاتها التي تتطلب جمع أدلة متعددة وتقارير من جهات مختلفة. لذا، يجب على المتضررين التحلي بالصبر والمثابرة، وعدم اليأس من طول مدة التقاضي.

التمسك بالحق والمتابعة المستمرة مع المحامي، والتجاوب مع طلبات النيابة والمحكمة، هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة والحصول على الحقوق. قد تكون الرحلة شاقة، لكن الإصرار على متابعة القضية يضمن في النهاية محاسبة المقصرين وتعويض المتضررين عن الأضرار التي لحقت بهم.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock