الإجراءات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون الجنائيالقانون المصريجرائم الانترنت

استغلال الذكاء الاصطناعي لإنشاء هويات مزيفة

استغلال الذكاء الاصطناعي لإنشاء هويات مزيفة

مخاطر العصر الرقمي: فهم آليات التزييف بالذكاء الاصطناعي

مع التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، تبرز تحديات جديدة تتعلق بالهوية والأمن الرقمي. أصبح بإمكان الأفراد والمجموعات استغلال هذه التقنيات المتقدمة لإنشاء هويات مزيفة تبدو حقيقية بشكل لا يصدق. هذه الظاهرة لا تقتصر على التلاعب بالصور والفيديوهات فحسب، بل تمتد لتشمل إنشاء شخصيات وهمية متكاملة يمكن استخدامها في أنشطة متعددة، بعضها قد يكون إجراميًا. يهدف هذا المقال إلى توضيح كيفية عمل هذه التقنيات والآثار المترتبة عليها، وكيف يمكن التعرف على هذه الهويات.

أسس إنشاء الهويات المزيفة بالذكاء الاصطناعي

استغلال الذكاء الاصطناعي لإنشاء هويات مزيفةيعتمد إنشاء الهويات المزيفة بالذكاء الاصطناعي بشكل أساسي على تقنيات التعلم العميق، وتحديدًا على نوع من الشبكات العصبية يُعرف بالشبكات التوليدية التنافسية (GANs). هذه الشبكات تتألف من مكونين رئيسيين: مولد (Generator) ومُميِّز (Discriminator). يعمل المولد على إنشاء بيانات جديدة، مثل صور الوجوه أو النصوص، بينما يقوم المميز بمحاولة التمييز بين البيانات الحقيقية والبيانات التي أنشأها المولد. يتنافس المكونان في عملية تدريب مستمرة لتحسين قدراتهما.

تتم تغذية هذه الشبكات بكميات هائلة من البيانات الحقيقية، مثل آلاف الصور لأشخاص حقيقيين. يتعلم المولد من هذه البيانات أنماط الوجوه البشرية وتعبيرات الوجه والملامح المختلفة. في المقابل، يتلقى المميز بيانات حقيقية وصورًا تم إنشاؤها بواسطة المولد. هدف المميز هو تحديد ما إذا كانت الصورة حقيقية أم مُولَّدة. هذه العملية التنافسية تدفع المولد ليصبح بارعًا بشكل استثنائي في إنتاج صور واقعية لدرجة يصعب على المميز، وحتى على العين البشرية المدربة، التمييز بينها وبين الصور الحقيقية.

طرق عملية لإنشاء هويات مزيفة باستخدام الذكاء الاصطناعي

1. التزييف العميق (Deepfakes) لإنشاء وجوه وأصوات مزيفة

يعد التزييف العميق من أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إنشاء الهويات المزيفة. هذه التقنية تتيح استبدال وجه شخص بوجه شخص آخر في مقطع فيديو، أو تركيب صوت معين على كلمات لم يقلها المتحدث الأصلي. تعتمد هذه العملية على تدريب نموذج ذكاء اصطناعي على مجموعة كبيرة من صور وفيديوهات الشخص المستهدف، بالإضافة إلى صور وفيديوهات الشخص الذي سيتم استبدال وجهه.

الخطوة الأولى تتمثل في جمع كمية كافية من البيانات المرئية والصوتية للشخصين. الخطوة الثانية هي تدريب الشبكة العصبية على هذه البيانات، حيث تتعلم الشبكة كيفية نقل تعابير الوجه والحركات من شخص إلى آخر مع الحفاظ على ملامح الشخص المستهدف. الخطوة الثالثة تشمل عملية التركيب، حيث يتم دمج الوجه الجديد أو الصوت المُولَّد مع الفيديو الأصلي أو التسجيل الصوتي. يمكن استخدام أدوات وبرامج متخصصة مثل DeepFaceLab أو FaceSwap لهذه الأغراض، والتي توفر واجهات تسهل هذه العملية.

2. استخدام الشبكات التوليدية التنافسية (GANs) لتوليد صور واقعية

تعتبر شبكات GANs هي العمود الفقري لإنشاء وجوه بشرية غير موجودة على الإطلاق ولكنها تبدو حقيقية تمامًا. يمكن استخدام نماذج GANs المدربة مسبقًا، مثل StyleGAN، لإنشاء عدد لا يحصى من صور الوجوه الفريدة. هذه الصور يمكن أن تكون مفيدة لإنشاء ملفات تعريف وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي أو في أي سياق يتطلب وجود هوية بصرية.

تتضمن العملية تحميل النموذج المدرب وتعديل بعض المعلمات لإنشاء صور مختلفة. يمكن التحكم في سمات معينة مثل العمر، الجنس، لون الشعر، وتعبيرات الوجه من خلال التلاعب بـ “فضاء الكامنة” (latent space) للنموذج. يمكن للمستخدمين ذوي المعرفة البرمجية استخدام مكتبات بايثون مثل TensorFlow أو PyTorch لتطبيق هذه النماذج وتوليد الصور بكميات كبيرة، مع القدرة على تخصيص المخرجات بشكل دقيق لتناسب الأغراض المختلفة.

3. توليد النصوص والسير الذاتية المزيفة

لا يقتصر التزييف على الصور والفيديوهات، بل يمتد إلى النصوص أيضًا. يمكن استخدام نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) مثل GPT-3 أو GPT-4 لإنشاء سير ذاتية، رسائل بريد إلكتروني، أو حتى مقالات كاملة لشخصيات وهمية. هذه النماذج قادرة على توليد نصوص متماسكة وواقعية تحاكي أسلوب الكتابة البشري، مما يجعل من الصعب تمييزها عن النصوص الحقيقية.

لإنشاء سيرة ذاتية مزيفة، يمكن تزويد النموذج بمعلومات أساسية عن “الشخصية” المطلوبة، مثل المهنة، المهارات، والخبرات التعليمية. يقوم النموذج بعد ذلك بتوليد سيرة ذاتية مفصلة تتضمن فقرات وصفية وإنجازات وهمية. يمكن استخدام هذه القدرة لإنشاء هويات مهنية مزيفة لدعم ملفات تعريف وهمية أو لأغراض احتيالية. تتطلب هذه العملية صياغة “أوامر” (prompts) دقيقة للنموذج لضمان الحصول على المخرجات المطلوبة والملائمة للسياق.

4. استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء بصمات رقمية مزيفة

بالإضافة إلى الجوانب المرئية والنصية، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء بصمات رقمية مزيفة للهويات. يشمل ذلك توليد تاريخ تصفح وهمي، أنماط سلوك على الإنترنت، وحتى نشاطات مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي. الهدف هو بناء هوية رقمية متكاملة تبدو وكأنها لشخص حقيقي لديه سجل رقمي.

يمكن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على تحليل أنماط سلوك المستخدمين الحقيقيين على الإنترنت ثم محاكاة هذه الأنماط. على سبيل المثال، يمكن لنموذج أن يتعلم كيفية إنشاء تغريدات أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تتناسب مع اهتمامات وشخصية الهوية المزيفة. هذا يتطلب فهمًا عميقًا لأسلوب الكلام والمواضيع الشائعة في المجتمعات الرقمية. يمكن استخدام أدوات برمجة لإنشاء نصوص برمجية تتفاعل مع واجهات برمجة التطبيقات (APIs) لمنصات التواصل الاجتماعي لنشر المحتوى المولد تلقائيًا.

التعرف على الهويات المزيفة والتعامل معها

مع تزايد تعقيد الهويات المزيفة، يصبح من الأهمية بمكان تطوير طرق للتعرف عليها. تعتمد العديد من طرق الكشف على الذكاء الاصطناعي نفسه، حيث يتم تدريب نماذج للكشف عن الأنماط الشاذة في الصور، الفيديوهات، أو النصوص التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، قد تبحث هذه النماذج عن تناقضات في الإضاءة، تفاصيل بكسل غير طبيعية، أو أنماط كلام غير متسقة.

من الناحية القانونية، يُعتبر إنشاء واستخدام الهويات المزيفة، خاصة لأغراض احتيالية أو إجرامية، جريمة يعاقب عليها القانون. تتضمن القوانين المصرية والدولية أحكامًا تجرم التزوير والاحتيال وانتحال الشخصية، وتطبيق هذه القوانين على الجرائم الإلكترونية بات أمرًا ملحًا. على المستخدمين والمؤسسات توخي الحذر الشديد عند التعامل مع الهويات الرقمية والتحقق من مصداقيتها قبل الاعتماد عليها في أي تعاملات حساسة.

تتمثل إحدى الطرق الفعالة في التحقق المتقاطع للمعلومات من مصادر متعددة وموثوقة. على سبيل المثال، إذا كانت هوية تدعي الانتماء إلى مؤسسة معينة، يمكن التحقق من ذلك عن طريق الاتصال بالمؤسسة مباشرة. كما أن الوعي العام بتقنيات التزييف ومخاطرها يلعب دورًا حيويًا في تقليل انتشار هذه الهويات وتأثيرها السلبي على الأفراد والمجتمعات.

عناصر إضافية وتوصيات

1. تعزيز الوعي الرقمي

يجب على الأفراد والمؤسسات تعزيز وعيهم بالتهديدات الرقمية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. يشمل ذلك فهم كيفية عمل تقنيات التزييف العميق والشبكات التوليدية التنافسية. يمكن تحقيق ذلك من خلال الدورات التدريبية، ورش العمل، وحملات التوعية التي تسلط الضوء على الأمثلة الواقعية للهويات المزيفة وكيفية التعرف عليها.

2. استخدام أدوات الكشف المتقدمة

تتوفر الآن أدوات وبرمجيات متخصصة للكشف عن التزييف العميق والمحتوى المُولد بواسطة الذكاء الاصطناعي. تستخدم هذه الأدوات خوارزميات معقدة لتحليل خصائص الصور والفيديوهات والأصوات، مثل تحليل التناقضات في البكسل، أو الأنماط الصوتية، أو التوقيعات الرقمية الفريدة. ينصح بالاستثمار في هذه الأدوات لزيادة القدرة على التحقق من مصداقية المحتوى الرقمي.

3. الإطار القانوني والتنظيمي

من الضروري تطوير وتحديث الأطر القانونية والتنظيمية لمواكبة التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي. يجب أن تتضمن هذه الأطر تشريعات واضحة تجرم استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء الهويات المزيفة لأغراض غير مشروعة، وتحدد العقوبات المناسبة. ينبغي أن يشمل ذلك التعاون الدولي لمكافحة الجرائم العابرة للحدود التي تستخدم هذه التقنيات.

4. مسؤولية شركات التكنولوجيا

يجب على شركات التكنولوجيا التي تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي تحمل مسؤولية أكبر في ضمان عدم استخدام منتجاتها لأغراض ضارة. يمكن أن يشمل ذلك تضمين “علامات مائية” رقمية (digital watermarks) في المحتوى المُولد بواسطة الذكاء الاصطناعي، أو تطوير آليات مدمجة للكشف عن التزييف. التعاون بين شركات التكنولوجيا والجهات الحكومية والمؤسسات البحثية أمر حاسم لمواجهة هذا التحدي.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock