الإجراءات القانونيةالدعاوى القضائيةالقانون الجنائيالقانون المصريالنيابة العامة

الشهادة ضد النفس في القانون الجنائي: مبدأ عدم الإكراه

الشهادة ضد النفس في القانون الجنائي: مبدأ عدم الإكراه

ضمانة دستورية وحق أصيل للمتهم في مواجهة الاتهام

في عالم العدالة الجنائية، يبرز مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس كحجر زاوية للمحاكمة العادلة والكرامة الإنسانية.
إنه حق أساسي يمنع إجبار الأفراد على تقديم دليل يدين أنفسهم، مما يحمي من إساءة استخدام السلطة ويضمن تحقيق العدالة
بناءً على أقوال حرة وأدلة قوية، لا اعترافات قسرية. يتناول هذا المقال تعقيدات هذا المبدأ ضمن القانون الجنائي المصري،
مقدمًا رؤى عملية حول تطبيقه والآليات المتاحة لحمايته، وسبل التصدي لأي انتهاكات قد تطرأ.

الأسس القانونية لمبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس

الشهادة ضد النفس في القانون الجنائي: مبدأ عدم الإكراه
يُعد مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس من المبادئ الدستورية الراسخة في معظم الأنظمة القانونية الحديثة،
بما في ذلك القانون المصري. يضمن هذا المبدأ حماية كرامة الإنسان وحريته في الدفاع عن نفسه دون التعرض
لأي ضغوط أو تهديدات قد تدفعه للإدلاء بأقوال غير صحيحة أو إقرار بجرائم لم يرتكبها. الحماية الدستورية
لهذا المبدأ تعني أنه لا يجوز لأي قانون أدنى أن يتعارض معه أو ينتقص منه، مما يجعله ضمانة عليا لجميع المواطنين.

الحماية الدستورية والقانونية

ينص الدستور المصري بوضوح على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع
عن نفسه، ويحظر الدستور أي تعذيب أو معاملة قاسية أو غير إنسانية. تتجسد هذه الحماية في نصوص قانون الإجراءات
الجنائية التي تنظم طرق التحقيق والمحاكمة، وتضع قيودًا صارمة على سلطات الضبط والتحقيق لضمان عدم انتزاع
الأقوال بالإكراه. هذه النصوص تتطلب أن تكون الإقرارات والاعترافات طوعية وبناءً على إرادة حرة للمتهم،
وإلا فإنها تُعد باطلة ولا يجوز التعويل عليها كدليل إدانة.

التطور التاريخي للمبدأ

لم يظهر مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس بشكل فوري، بل تطور عبر مراحل تاريخية طويلة،
خاصة بعد عصر محاكم التفتيش التي كانت تعتمد على التعذيب لانتزاع الاعترافات. بدأت الأنظمة
القانونية في إدراك خطورة هذه الممارسات وأثرها السلبي على العدالة، مما أدى إلى بلورة فكرة
ضرورة حماية المتهم من إجبار نفسه على تقديم دليل إدانة. هذا التطور عكس تحولاً جذريًا في
فلسفة العدالة الجنائية نحو احترام حقوق الإنسان والمحاكمة المنصفة، ليصبح المبدأ جزءًا لا يتجزأ
من المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

نطاق تطبيق المبدأ وحدوده

يُعد فهم نطاق تطبيق مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس أمرًا جوهريًا لضمان حقوق المتهم.
لا يقتصر هذا المبدأ على الأقوال الصريحة التي قد يدلي بها المتهم، بل يمتد ليشمل أي سلوك أو فعل
قد يُجبر عليه بهدف استخراج دليل إدانة منه. تحديد هذه الحدود بدقة يساعد في التمييز بين ما هو
محمي قانونًا وما يمكن للمحققين طلبه من المتهم دون انتهاك هذا المبدأ المقدس.

ما يشمله المبدأ: الأقوال والأفعال

يشمل المبدأ بشكل أساسي الأقوال التي يدلي بها المتهم، سواء كانت اعترافًا صريحًا أو معلومات
يمكن أن تُستخدم ضده. يمتد ليشمل أيضًا الأفعال التي قد يُجبر عليها، مثل إجباره على إعادة تمثيل
الجريمة، أو تقديم عينة من خط يده، أو إجباره على السكوت أو إبداء رد فعل معين يمكن تفسيره
على أنه إدانة. الهدف هو منع أي تدخل قسري يؤثر على إرادة المتهم الحرة في الإدلاء بأقواله أو
القيام بأفعال قد تُستغل ضده، مما يعزز فكرة أن المتهم ليس مصدرًا للأدلة القسرية.

التمييز بين الإكراه والاعتراف الطوعي

يُعد التمييز بين الاعتراف المنتزع بالإكراه والاعتراف الطوعي نقطة دقيقة وحاسمة في القانون الجنائي.
الاعتراف الطوعي هو الذي يصدر عن إرادة حرة واعية للمتهم، دون أي ضغوط نفسية أو مادية أو تهديد.
أما الإكراه، فيشمل أي وسيلة غير مشروعة تهدف إلى التأثير على إرادة المتهم، سواء بالضرب،
التهديد، الوعد الكاذب، الإيهام، أو حتى الاستجواب المطول الذي يصل إلى حد الإرهاق. الحل هنا
يكمن في التأكد من الظروف المحيطة بالاعتراف وأنها توفر مناخًا من الحرية الكاملة للإدلاء بالأقوال.

حالات لا يسري عليها المبدأ

رغم الأهمية الكبيرة لمبدأ عدم الإكراه، إلا أن هناك حالات معينة قد لا ينطبق عليها بالشكل المطلق.
فمثلاً، لا يشمل المبدأ الأدلة المادية التي يمكن الحصول عليها من المتهم دون الحاجة إلى إرادته
النشطة، مثل أخذ عينات الدم أو البصمات أو الحمض النووي (DNA) بقرار قضائي وفي إطار قانوني سليم،
باعتبار أن هذه الأدلة موجودة بشكل مستقل عن إرادة المتهم. كما لا يمنع المبدأ المتهم من الإدلاء
بأقوال طوعية أو التعاون مع سلطات التحقيق إذا رغب في ذلك بكامل حريته واختياره.

آليات حماية المتهم ومواجهة الانتهاكات

لضمان فعالية مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس، تتوافر مجموعة من الآليات القانونية
التي تهدف إلى حماية المتهم ومنع أي انتهاكات لهذا الحق. هذه الآليات تتطلب يقظة من جميع
الأطراف المعنية بالعدالة، بدءًا من سلطات التحقيق وصولًا إلى المحكمة، فضلاً عن الدور
الحيوي الذي يلعبه المحامي.

دور النيابة العامة والمحكمة

تقع على عاتق النيابة العامة مسؤولية جسيمة في حماية حقوق المتهم خلال مرحلة التحقيق.
يجب على أعضاء النيابة العامة التأكد من أن جميع الإجراءات تتوافق مع القانون وأن الأقوال
تُسجل في ظروف خالية من أي ضغط أو إكراه. وفي حالة وجود شكوك حول شرعية أي اعتراف،
فإن النيابة ملزمة بالتحقيق في هذه الشكوك. أما المحكمة، فهي الملاذ الأخير لضمان
العدالة، حيث تلتزم بعدم الاعتداد بأي دليل يُثبت انتزاعه بالإكراه، وتقضي ببطلان
الإجراءات المتخذة إذا ثبت حدوث ذلك، مما يعزز الحماية القضائية للمتهم.

حقوق المتهم أثناء التحقيق والمحاكمة

للمتهم حقوق أساسية يجب أن تُحترم في جميع مراحل الدعوى الجنائية. من هذه الحقوق:
الحق في الصمت وعدم الإجابة على الأسئلة إذا رأى ذلك في مصلحته، الحق في الاستعانة
بمحامٍ منذ اللحظات الأولى للتحقيق، والحق في إبلاغ أقاربه بمكان تواجده. كما يحق
للمتهم أن يطلب عرض نفسه على الطبيب الشرعي إذا ادعى تعرضه لإيذاء جسدي. توفير هذه
الحقوق بشكل فعال هو الحل الأمثل لمنع أي إكراه محتمل، ويجب على الجهات القضائية
توعية المتهم بها وضمان ممارسته لها بحرية تامة.

الإجراءات القانونية عند الإكراه

إذا ما تعرض المتهم للإكراه، فإن القانون يوفر عدة آليات لمواجهة هذا الانتهاك.
يمكن للمتهم أو محاميه الدفع ببطلان الإجراءات التي شابها الإكراه أمام النيابة
العامة أو المحكمة. يتطلب الأمر هنا تقديم أدلة قوية تثبت وجود الإكراه،
سواء كانت شهادات، تقارير طبية، أو أي قرائن أخرى. في حال ثبوت الإكراه،
يجب على المحكمة استبعاد الأقوال المنتزعة تحت وطأته واعتبارها كأن لم تكن،
وقد يترتب على ذلك بطلان الإجراءات التي تلتها، مما قد يؤدي إلى براءة المتهم
أو إعادة التحقيق في القضية من جديد بشكل سليم.

الحلول العملية لضمان تطبيق المبدأ

لتعزيز مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس وضمان تطبيقه الفعال في الممارسة
العملية، يتطلب الأمر تبني مجموعة من الحلول والإجراءات الوقائية التي لا تقتصر
على الجانب القانوني فقط، بل تشمل التوعية وتطوير آليات العمل القضائي. هذه الحلول
تهدف إلى بناء نظام عدالة أكثر شفافية وإنصافًا.

دور المحامي في حماية حقوق المتهم

يُعد المحامي هو خط الدفاع الأول عن حقوق المتهم. يجب على المحامي التواجد مع موكله
منذ أول استجواب، والتأكد من إبلاغه بحقوقه كاملة، بما في ذلك حقه في الصمت. كما
يتعين على المحامي التدخل فورًا إذا لاحظ أي مؤشرات على الإكراه أو الضغط على موكله،
وتوثيق هذه الانتهاكات وتقديم الدفوع القانونية اللازمة. الحل هنا يكمن في إتاحة
الفرصة للمحامين لأداء دورهم بفعالية ودون قيود، وتدريبهم المستمر على أحدث التطورات
في مجال حقوق المتهم لمواجهة أي محدوديات قد تواجههم.

التوعية القانونية للمواطنين

توعية المواطنين بحقوقهم القانونية، وخاصة مبدأ عدم الإكراه على الشهادة ضد النفس،
أمر بالغ الأهمية. فالمتهم المطلع على حقوقه يكون أكثر قدرة على حماية نفسه من
الانتهاكات. يمكن تحقيق ذلك من خلال حملات توعية عامة، كتيبات إرشادية، برامج
تثقيفية عبر وسائل الإعلام، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني. الهدف هو تمكين
الأفراد من معرفة متى وكيف يمكنهم التمسك بحقوقهم، وكيفية الإبلاغ عن أي محاولة
للإكراه، مما يخلق وعيًا مجتمعيًا يدعم تطبيق المبدأ بفعالية.

مقترحات لتعزيز الضمانات القانونية

يمكن تعزيز الضمانات القانونية لمبدأ عدم الإكراه من خلال عدة مقترحات عملية.
أحد الحلول هو تسجيل جميع جلسات التحقيق بالصوت والصورة، مما يوفر دليلاً موضوعيًا
على كيفية سير التحقيق ويحد من احتمالات الإكراه. كما يمكن تشديد العقوبات
على المسؤولين عن انتزاع الاعترافات بالإكراه. كذلك، يجب مراجعة التشريعات
بشكل دوري لضمان مواكبتها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتوفير تدريب
مستمر للقضاة وأعضاء النيابة العامة وضباط الشرطة حول أهمية هذا المبدأ
وطرق تطبيقه السليمة، لضمان أعلى مستويات العدالة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock