الدفع بقيام حالة الضرورة
محتوى المقال
الدفع بقيام حالة الضرورة
مفهومها، شروطها، وآثارها القانونية في القانون المصري
يُعد الدفع بقيام حالة الضرورة أحد أهم الأسباب التي تبيح الأفعال أو تخفف من العقوبة في القانون، سواء الجنائي أو المدني. تبرز أهمية هذا الدفع في حماية الأفراد الذين يجدون أنفسهم مضطرين لارتكاب فعل غير قانوني لدرء خطر جسيم ومحدق لا يمكن تفاديه بطريقة أخرى. يتناول هذا المقال الطرق والخطوات العملية لفهم وتطبيق هذا المفهوم القانوني المعقد، مقدماً حلولاً متكاملة لكيفية التعامل معه من مختلف الجوانب.
مفهوم الدفع بقيام حالة الضرورة وتجلياته القانونية
الدفع بقيام حالة الضرورة هو حجة قانونية يتقدم بها المتهم أو المدعى عليه لتبرير فعله المخالف للقانون، معتمداً على اضطراره لارتكابه نتيجة خطر داهم يهدد نفسه أو غيره، ولا سبيل لدفع هذا الخطر إلا بارتكاب الفعل المذكور. تهدف هذه الحجة إلى إظهار أن الإرادة الحرة كانت معيبة، أو أن الفعل كان الخيار الوحيد لتجنب ضرر أكبر. يتطلب تطبيق هذا المفهوم فهماً دقيقاً لشروطه وآثاره القانونية.
يتجلى هذا المفهوم في صور متعددة، فقد يكون لإنقاذ حياة، أو حماية ممتلكات، أو تفادي كارثة. القانون يتعامل مع هذه الحالات بمنطق يوازن بين احترام النصوص القانونية وتقدير الظروف الاستثنائية التي تدفع الأفراد لاتخاذ قرارات صعبة. فهم هذه التجليات يساعد في بناء دفاع قوي ومقنع أمام القضاء، مبيناً أن الفعل لم يكن نابعاً من إرادة إجرامية بل من ضرورة ملحة.
الشروط القانونية لتحقق حالة الضرورة
للقيام بالدفع بحالة الضرورة، يجب أن تتحقق مجموعة من الشروط الأساسية التي أقرها القانون والفقه القضائي. هذه الشروط هي الأساس الذي يبنى عليه قبول الدفع أو رفضه. يجب على المتقاضي أو محاميه التأكد من استيفاء كافة هذه الشروط لضمان نجاح الدفاع. عدم استيفاء شرط واحد قد يؤدي إلى سقوط الدفع وعدم الاعتداد به.
وجود خطر حال ومحدق
أحد أبرز شروط حالة الضرورة هو وجود خطر وشيك ومستمر يهدد حياة أو سلامة شخص أو ممتلكات. يجب أن يكون الخطر حقيقياً، قائماً بالفعل، وغير افتراضي أو محتمل في المستقبل البعيد. لا يمكن الاحتجاج بحالة الضرورة إذا كان الخطر قد انتهى أو لم يبدأ بعد. يشمل هذا الخطر التهديدات الجسدية، المادية، أو حتى المعنوية التي تمس حقوقاً محمية قانوناً.
يتطلب إثبات هذا الخطر تقديم أدلة قاطعة على طبيعته وشدته ومدى إلحاحه. يمكن أن تكون هذه الأدلة شهادات شهود، تقارير طبية، صور، أو أي مستندات تدعم وجود هذا التهديد. يجب أن يكون الخطر غير ناجم عن فعل المتهم نفسه، فلا يجوز للشخص أن يخلق حالة الضرورة ثم يحتج بها لتبرير تصرفاته.
عدم القدرة على دفع الخطر بطريقة أخرى
الشرط الثاني يتمثل في عدم وجود وسيلة أخرى مشروعة أو أقل ضرراً لدفع الخطر. يجب أن يكون الفعل الذي تم ارتكابه هو الحل الوحيد المتاح لتجنب الضرر الأكبر. إذا كان بالإمكان تفادي الخطر بطرق قانونية أو بديلة لا تتطلب مخالفة القانون، فلا يمكن الاحتجاج بحالة الضرورة.
يقع عبء إثبات هذا الشرط على عاتق من يدفع بحالة الضرورة. يجب عليه أن يوضح للمحكمة كافة الطرق البديلة الممكنة التي فكر فيها، ولماذا لم تكن هذه الطرق مجدية أو كافية لدفع الخطر. هذا يتطلب تحليلاً دقيقاً للظروف المحيطة بالواقعة لإثبات أن الفعل المرتكب كان الملاذ الأخير.
التناسب بين الضرر المدفوع والضرر الواقع
يجب أن يكون هناك تناسب معقول بين الضرر الذي تم دفعه (الخطر الذي تم تجنبه) والضرر الذي وقع نتيجة الفعل المرتكب (المخالفة القانونية). لا يمكن تبرير ارتكاب جريمة كبيرة لتجنب ضرر بسيط، فالمعيار هو أن يكون الضرر الذي تم تجنبه أكبر أو مساوياً للضرر الذي نتج عن الفعل.
تعتبر مسألة التناسب من المسائل التي يرجع تقديرها للقاضي، حيث ينظر إلى ظروف كل حالة على حدة. على سبيل المثال، لا يمكن تبرير قتل شخص لإنقاذ ممتلكات تافهة. يجب على الدفاع أن يبين كيف أن الفعل المرتكب، رغم مخالفته للقانون، كان ضررًا أقل مقارنة بالضرر الذي كان سيحدث لو لم يتم هذا الفعل.
عدم تعمد إحداث حالة الضرورة
يشترط ألا يكون الشخص الذي يدفع بحالة الضرورة قد تسبب هو نفسه في إحداث هذا الخطر الذي استدعى ارتكاب الفعل المخالف للقانون. إذا كان الشخص قد أوجد الخطر بإرادته أو نتيجة لإهماله الجسيم، فلا يمكنه بعد ذلك الاحتجاج بالضرورة لتبرير أفعاله. يهدف هذا الشرط إلى منع استغلال هذا الدفع لتغطية الأفعال الإجرامية.
يتعين على المحكمة التأكد من أن المتهم لم يكن له دور مباشر أو غير مباشر في خلق الظرف الذي أدى إلى حالة الضرورة. هذا يعني أن يكون الخطر قد نشأ عن عوامل خارجية أو عن فعل طرف آخر، مما يجعل المتهم في موقف الضحية أو المضطر لاتخاذ إجراءات عاجلة لحماية نفسه أو الآخرين.
الآثار المترتبة على الدفع بحالة الضرورة
في حال قبول المحكمة للدفع بقيام حالة الضرورة، تترتب على ذلك آثار قانونية مهمة تختلف حسب طبيعة الفعل والتشريع المطبق. يمكن أن تؤدي هذه الآثار إلى الإعفاء الكامل من العقوبة أو تخفيفها بشكل كبير، مما يجعل هذا الدفع أداة دفاعية قوية في يد المتهمين. فهم هذه الآثار يساعد في تحديد استراتيجية الدفاع الأنسب.
الإعفاء من المسؤولية الجنائية
إذا تحققت شروط حالة الضرورة بالكامل، فإنها قد تؤدي إلى تبرير الفعل المرتكب واعتباره غير معاقب عليه جنائياً. ففي القانون الجنائي، تُعد حالة الضرورة أحد موانع المسؤولية أو أسباب الإباحة، بمعنى أن الفعل الذي تم في ظل الضرورة لا يُعد جريمة أصلاً لانتفاء القصد الجنائي أو لكونه مبرراً قانونياً. هذا يعني أن المتهم لا يُدان بأي عقوبة جنائية.
يتطلب الإعفاء الكامل من المسؤولية الجنائية إثباتاً قوياً لكافة شروط الضرورة أمام المحكمة. تُراجع المحكمة الأدلة بعناية للتأكد من أن الفعل كان ضرورياً وحتمياً وغير اختياري. في حال ثبوت ذلك، يصدر حكم ببراءة المتهم من التهم الموجهة إليه، مع التأكيد على أن الفعل كان مبرراً قانوناً.
تخفيف العقوبة أو الإعفاء منها في بعض الحالات
في بعض الأنظمة القانونية، أو عندما لا تتوافر جميع شروط الإباحة بشكل كامل، قد لا تؤدي حالة الضرورة إلى الإعفاء التام من المسؤولية، بل قد تُعتبر سبباً مخففاً للعقوبة. يمكن للمحكمة في هذه الحالة أن تصدر حكماً بعقوبة أقل من الحد الأدنى المقرر للجريمة، أو تُعفي من بعض العقوبات التبعية.
يُعد تخفيف العقوبة حلاً وسطاً يتيح للقضاء مراعاة الظروف الاستثنائية التي دفعت المتهم لارتكاب الفعل، مع عدم إغفال الخطأ الذي وقع. يعتمد قرار المحكمة في تخفيف العقوبة على مدى توافر شروط الضرورة، ودرجة الخطأ المرتكب، ومدى التناسب بين الفعل والخطر الذي تم تفاديه. هذه المرونة القضائية توفر حماية إضافية للأفراد.
المسؤولية المدنية عن الأضرار
على الرغم من أن حالة الضرورة قد ترفع المسؤولية الجنائية، إلا أنها لا تعفي بالضرورة من المسؤولية المدنية عن الأضرار التي لحقت بالغير. بمعنى أن الشخص الذي ارتكب فعلاً في حالة ضرورة، وتسبب في ضرر للغير، قد يُلزم بتعويض هذا الغير عن الأضرار التي لحقت به، حتى لو كان فعله مبرراً جنائياً.
تُبنى المسؤولية المدنية هنا على فكرة “الإثراء بلا سبب” أو “تحمل المخاطر”، حيث يُعتبر الشخص قد تسبب في ضرر للغير لإنقاذ نفسه أو مصلحته، وبالتالي يجب عليه تعويض المتضرر. يهدف هذا الحل إلى تحقيق العدالة بين الأطراف، فلا ينبغي أن يتحمل شخص ضرراً لحق به نتيجة فعل آخر، حتى لو كان هذا الفعل مبرراً. تُقدم المحاكم المدنية حلولاً للتعويضات المناسبة.
كيفية إثبات حالة الضرورة أمام القضاء
يتطلب إثبات حالة الضرورة أمام المحاكم جهداً كبيراً ودقة في جمع الأدلة وتقديمها. يجب على الدفاع اتباع خطوات عملية واضحة لضمان توصيل حجة الضرورة بشكل مقنع للمحكمة. يقع عبء الإثبات على عاتق من يدعي قيام حالة الضرورة، مما يستدعي إعداداً محكماً للملف القضائي.
جمع الأدلة المادية والشهادات
الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي جمع كافة الأدلة التي تثبت وجود الخطر وضرورة الفعل المرتكب. تشمل الأدلة المادية الصور، التسجيلات الصوتية والمرئية، التقارير الطبية، محاضر الشرطة، أو أي مستندات رسمية تثبت وجود الخطر. كما تُعد شهادات الشهود الذين رأوا الواقعة أو لديهم علم بالخطر المحيط أدلة حيوية.
يجب أن تكون الأدلة قوية ومترابطة وتدعم الرواية بشكل منطقي. تُقدم هذه الأدلة في شكل مستندات رسمية ومصدقة لضمان قبولها في المحكمة. يساعد جمع الأدلة بشكل منهجي ودقيق في بناء قضية قوية لا يمكن الطعن فيها بسهولة، مما يعزز فرص قبول الدفع.
تقديم المذكرات القانونية التفصيلية
بعد جمع الأدلة، يجب صياغة مذكرات قانونية تفصيلية تشرح الواقعة، وتوضح كيف توافرت شروط حالة الضرورة في هذه الحالة بالذات. يجب أن تتضمن المذكرات تحليلاً قانونياً عميقاً للموقف، مع الإشارة إلى النصوص القانونية والفقهية والسوابق القضائية التي تدعم الدفع.
تُعد المذكرات فرصة لشرح الظروف المحيطة بالفعل، وبيان أن الخطر كان حقيقياً، وأن الفعل كان الخيار الوحيد. يجب أن تكون المذكرات واضحة، موجزة، ومقنعة، وتركز على النقاط الجوهرية التي تدعم الدفع. تُقدم هذه المذكرات للمحكمة في الوقت المناسب ووفقاً للإجراءات القانونية المحددة.
استدعاء الشهود والخبراء
في بعض الحالات، قد يتطلب الأمر استدعاء شهود عيان أو خبراء لتقديم شهاداتهم أمام المحكمة. يمكن للشهود أن يدعموا رواية الدفاع بخصوص وجود الخطر وعدم وجود بديل لدفع الخطر. أما الخبراء، مثل الأطباء الشرعيين أو خبراء الحرائق، فيمكنهم تقديم رأي فني يدعم وجود الخطر وشدته.
يجب إعداد الشهود جيداً قبل مثولهم أمام المحكمة لتقديم شهاداتهم بوضوح ودقة. تُعد شهادات الخبراء ذات أهمية بالغة، خاصة في القضايا التي تتطلب معرفة فنية متخصصة. هذه الخطوة تعزز من قوة الدفع وتوفر للمحكمة رؤية شاملة للظروف المحيطة بالواقعة.
الفروقات بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي
على الرغم من التشابه الظاهري بين حالة الضرورة والدفاع الشرعي، إلا أن هناك فروقاً جوهرية تميز كل منهما عن الآخر. فهم هذه الفروقات ضروري لتحديد أي الدفعين هو الأنسب للوضع القانوني المعين. يُعد التمييز بينهما حلاً لتجنب الخلط في التطبيقات القانونية.
اختلاف طبيعة الخطر
في حالة الدفاع الشرعي، ينشأ الخطر عن فعل غير مشروع يقوم به إنسان (اعتداء). يكون الدفاع الشرعي رداً على هذا الاعتداء بهدف دفعه. أما في حالة الضرورة، فالخطر قد ينشأ عن أي مصدر، سواء كان فعل إنسان، أو قوة قاهرة (مثل كارثة طبيعية)، أو حتى الحيوانات. لا يشترط أن يكون الخطر ناتجاً عن اعتداء.
هذا الاختلاف في مصدر الخطر يحدد طبيعة الاستجابة القانونية. الدفاع الشرعي يركز على مواجهة المعتدي، بينما حالة الضرورة تركز على تجنب الضرر الأكبر بغض النظر عن مصدره. هذا الفارق الجوهري يؤثر على شروط كل منهما وكيفية تطبيقهما.
اختلاف الهدف من الفعل
يهدف الدفاع الشرعي إلى دفع الاعتداء على النفس أو المال، وهو عادة ما يتوجه نحو مصدر الخطر (المعتدي). يكون الهدف هو حماية النفس أو الغير من اعتداء وشيك. أما في حالة الضرورة، فالهدف هو تجنب ضرر جسيم عن طريق ارتكاب فعل قد يصيب طرفاً ثالثاً بريئاً لا علاقة له بالخطر الأصلي.
على سبيل المثال، من يقتل حيواناً مفترساً لحماية نفسه يقوم بفعل مبرر بحالة ضرورة، وليس دفاعاً شرعياً ضد إنسان. ومن يسرق طعاماً لإنقاذ نفسه من الجوع الشديد، يفعل ذلك بحالة ضرورة وقد يصيب صاحب الطعام بضرر دون أن يكون له علاقة بخطر الجوع. هذا التمييز يوجه المحكمة في تطبيق النصوص القانونية الصحيحة.