الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون المصريجرائم الانترنت

نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي

نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي

تحديات قانونية وحلول عملية لمواجهتها

نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعينشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي يمثل تحديًا متزايدًا في العصر الرقمي، حيث باتت الأدوات التكنولوجية الحديثة تتيح إنتاج محتوى زائف أو مضلل بسرعة فائقة وانتشار واسع. هذه الظاهرة لا تهدد استقرار المجتمعات فحسب، بل وتطرح تساؤلات قانونية عميقة حول المسؤولية والمساءلة. يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذه المشكلة المتفاقمة.

يتناول المقال الجوانب القانونية والفنية لهذه الظاهرة، مقدمًا حلولًا عملية ودقيقة للتعامل معها. سنستكشف الإطار القانوني الحالي في مصر، ونحدد الثغرات والتحديات التي يفرضها التطور التكنولوجي المتسارع. كما سنقدم مجموعة من الإجراءات والخطوات الملموسة التي يمكن للأفراد والجهات الرسمية اتخاذها لمواجهة انتشار المعلومات المضللة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بفاعلية.

فهم ظاهرة المواد المضللة المدعومة بالذكاء الاصطناعي

تعريف المواد المضللة والذكاء الاصطناعي

المواد المضللة هي أي معلومات خاطئة أو مشوهة يتم تداولها بقصد خداع الجمهور أو التأثير على رأيه العام. يمكن أن تتخذ هذه المواد أشكالًا متعددة، بما في ذلك النصوص والصور ومقاطع الفيديو، وغالبًا ما تستخدم لإثارة البلبلة أو نشر الشائعات أو الترويج لأجندات معينة. الذكاء الاصطناعي، من جانبه، هو مجموعة من التقنيات التي تمكن الآلات من محاكاة القدرات المعرفية البشرية، مثل التعلم والاستنتاج واتخاذ القرار.

يتمثل الخطر في التقاء هاتين الظاهرتين، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي أداة قوية في يد من يرغبون في إنتاج ونشر هذه المواد المضللة على نطاق واسع وبشكل مقنع للغاية. تتزايد قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد محتوى يبدو حقيقيًا وواقعيًا، مما يزيد من صعوبة التمييز بين الحقيقة والتضليل.

آليات عمل الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى المضلل

يعتمد الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى المضلل على عدة تقنيات متطورة. إحدى أبرز هذه التقنيات هي الشبكات التوليدية التنافسية (GANs)، التي تستطيع توليد صور ومقاطع فيديو واقعية جدًا لأشخاص أو أحداث لم تحدث بالفعل. تقنيات “التزييف العميق” (Deepfakes) هي مثال حي على ذلك، حيث يمكن استخدامها لتزييف وجوه أو أصوات الأشخاص ووضعهم في سياقات مختلفة.

بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) لتوليد نصوص تبدو وكأنها مكتوبة بواسطة بشر، مع القدرة على محاكاة أساليب كتابة معينة أو إنتاج مقالات إخبارية زائفة تبدو مقنعة. يتم تدريب هذه النماذج على كميات هائلة من البيانات، مما يمكنها من فهم السياقات اللغوية وإنشاء محتوى متماسك ومضلل أحيانًا.

المخاطر الاجتماعية والقانونية المترتبة

نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي يحمل مخاطر جسيمة على المستويين الاجتماعي والقانوني. اجتماعيًا، يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات الإخبارية والحكومية، وزعزعة استقرار المجتمعات من خلال نشر الكراهية أو الشقاق. كما يمكن أن يؤثر سلبًا على العمليات الديمقراطية والتصويت، مما يهدد أسس الديمقراطية ذاتها.

قانونيًا، تثير هذه الظاهرة تحديات جديدة تتعلق بالتشهير، انتحال الشخصية، انتهاك الخصوصية، الاحتيال، وحتى التحريض على العنف أو الجرائم. تحديد المسؤولية القانونية في حالات المحتوى المضلل الناتج عن الذكاء الاصطناعي يصبح أمرًا معقدًا، خاصة عند صعوبة تتبع المصدر الأصلي أو النية وراء النشر. يتطلب ذلك تحديثًا مستمرًا للقوانين القائمة وتطوير تشريعات جديدة.

الإطار القانوني الحالي لمكافحة المحتوى المضلل

القوانين المصرية ذات الصلة

يتضمن القانون المصري عدة نصوص يمكن تطبيقها لمكافحة نشر المواد المضللة، وإن لم تكن قد صيغت خصيصًا للتعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي. قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 يُعد من أهم التشريعات في هذا الصدد، حيث يجرم الأفعال المتعلقة بالدخول غير المشروع، الاعتداء على البرامج والبيانات، والنشر الذي يهدد الأمن القومي أو النظام العام.

كذلك، يمكن تطبيق مواد قانون العقوبات المتعلقة بالسب والقذف والتشهير وإثارة الفتن والتحريض على العنف. كما أن قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 يفرض التزامًا على المؤسسات الإعلامية بتحري الدقة والموضوعية في النشر، ويمكن أن يطبق في حالات معينة.

التحديات في تطبيق القانون على الذكاء الاصطناعي

على الرغم من وجود بعض النصوص القانونية، إلا أن تطبيقها على حالات نشر المواد المضللة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي يواجه تحديات كبيرة. تتمثل هذه التحديات في سرعة انتشار المحتوى وتغير أساليب التضليل، وصعوبة تحديد المسؤولية القانونية في ظل استخدام الأنظمة الذكية. فالقانون التقليدي يركز على الفاعل البشري والنية الإجرامية، وهو ما قد لا ينطبق بشكل مباشر على الأنظمة الذكية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي تتيح إخفاء المصادر الحقيقية للمحتوى المضلل، مما يجعل تتبع الجناة أمرًا في غاية الصعوبة. كما أن الطابع العابر للحدود للإنترنت يزيد من تعقيد مسائل الاختصاص القضائي وتطبيق القوانين الوطنية، مما يتطلب تعاونًا دوليًا لمواجهة هذه الجرائم.

دور النيابة العامة والمحاكم المختصة

تضطلع النيابة العامة بدور محوري في التحقيق في جرائم نشر المواد المضللة، وجمع الأدلة، وإحالة المتهمين إلى المحاكم المختصة. يعتمد نجاح النيابة في هذا المجال على قدرتها على مواكبة التطورات التكنولوجية وتدريب كوادرها على التعامل مع الأدلة الرقمية وتحليلها. كما يقع على عاتق المحاكم المختصة، لا سيما المحاكم الاقتصادية ومحاكم الجنح، مسؤولية تطبيق القانون بفاعلية على هذه الجرائم.

يجب على القضاة والمحققين فهم آليات عمل الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه في التضليل، لضمان إصدار أحكام عادلة ومناسبة. تتطلب هذه القضايا خبرة فنية وقانونية متخصصة، مما يؤكد الحاجة إلى تطوير قدرات الكوادر القضائية والقانونية في مجال الجرائم الإلكترونية والذكاء الاصطناعي.

حلول عملية لمواجهة نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي

الحلول التشريعية المقترحة

تتطلب مواجهة ظاهرة نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي تطويرًا شاملًا للإطار التشريعي. يجب سن قوانين جديدة أو تعديل القوانين القائمة لتشمل تعريفات واضحة للمواد المضللة المنتجة بالذكاء الاصطناعي، وتحديد المسؤولية القانونية للمنتجين والناشرين. يجب أن تتضمن هذه التشريعات عقوبات رادعة ومناسبة تتناسب مع خطورة هذه الجرائم وتأثيرها.

كما ينبغي النظر في إنشاء جهات تنظيمية متخصصة تتمتع بالصلاحيات اللازمة للرصد والتحقيق واتخاذ الإجراءات ضد المخالفين. يمكن أن تشمل هذه الحلول فرض التزامات على شركات التكنولوجيا ووسطاء الإنترنت للكشف عن المحتوى المضلل وإزالته، وتوفير آليات للإبلاغ السريع والفعال عن مثل هذه الحالات.

الحلول التكنولوجية (الكشف عن الذكاء الاصطناعي، التحقق من الحقائق)

تلعب التكنولوجيا دورًا مزدوجًا في هذه الظاهرة، فبينما يمكن أن تكون أداة للتضليل، يمكن أن تكون أيضًا حلًا فعالًا لمكافحته. تطوير أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي نفسه للكشف عن المحتوى المضلل والتمييز بين المحتوى الأصلي والمحتوى المنتج بالذكاء الاصطناعي (مثل تقنيات اكتشاف Deepfake) يعد أمرًا حيويًا. يمكن لهذه الأدوات تحليل الأنماط والخصائص المميزة للمحتوى الاصطناعي.

تعزيز منصات ومبادرات التحقق من الحقائق (Fact-checking) وتزويدها بالأدوات اللازمة للكشف السريع عن المعلومات المضللة وتفنيدها. يجب أن تكون هذه المنصات مدعومة بالتقنيات الحديثة لسرعة الاستجابة والوصول إلى جمهور واسع. كما يمكن تطوير تقنيات لتوثيق المصادر وتشفير المحتوى الأصلي لمنع التلاعب به.

الحلول التوعوية والمجتمعية (بناء الوعي، دور الإعلام)

الوعي العام هو خط الدفاع الأول ضد المواد المضللة. يجب على الحكومات والمؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني إطلاق حملات توعية مكثفة لتعليم الجمهور كيفية التعرف على المحتوى المضلل والتحقق من مصادره. ينبغي التركيز على تنمية التفكير النقدي لدى الأفراد، وتشجيعهم على عدم مشاركة المعلومات قبل التحقق منها.

للإعلام دور حيوي في هذا الصدد، ليس فقط كمصدر للمعلومات الموثوقة، بل كشريك في مكافحة التضليل. يجب على وسائل الإعلام تبني معايير صارمة للتحقق من الحقائق، وتثقيف جمهورها حول مخاطر المحتوى المضلل. التعاون بين الإعلاميين وخبراء التكنولوجيا والمشرعين يمكن أن يؤسس جبهة موحدة ضد هذه الظاهرة.

دور المحامين والمستشارين القانونيين

يُعد المحامون والمستشارون القانونيون شريكًا أساسيًا في مواجهة هذه الجرائم. يقع على عاتقهم تقديم المشورة القانونية للضحايا حول كيفية اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، ورفع الدعاوى القضائية المناسبة، سواء كانت جنائية أو مدنية. كما أنهم يلعبون دورًا في توعية الأفراد والشركات بالمخاطر القانونية لنشر أو تداول المعلومات المضللة.

ينبغي على المحامين المتخصصين في القانون الجنائي أو الجرائم الإلكترونية مواكبة أحدث التطورات التكنولوجية والقانونية لتقديم أفضل الخدمات. يمكنهم المساعدة في جمع الأدلة الرقمية، وتحديد المسؤولية، والمطالبة بالتعويضات عن الأضرار التي لحقت بالضحايا نتيجة لنشر المواد المضللة.

إجراءات عملية للتعامل مع واقعة نشر مواد مضللة

جمع الأدلة والبلاغ للجهات المختصة

عند التعرض لواقعة نشر مواد مضللة، الخطوة الأولى هي جمع كافة الأدلة المتاحة. يشمل ذلك لقطات شاشة (screenshots) للصفحات التي تحتوي على المحتوى المضلل، روابط مباشرة للمواد المنشورة، وتواريخ وأوقات النشر. يجب توثيق أي محتوى مضلل يتضمن صورًا أو مقاطع فيديو عن طريق حفظها بأفضل جودة ممكنة.

بعد جمع الأدلة، يجب التوجه إلى الجهات المختصة لتقديم بلاغ رسمي. في مصر، يمكن تقديم البلاغات إلى مباحث الإنترنت التابعة لوزارة الداخلية أو النيابة العامة. يجب تقديم الأدلة الموثقة بشكل دقيق وواضح، وشرح تفاصيل الواقعة والضرر الذي لحق بالشاكي.

متابعة الإجراءات القانونية

بعد تقديم البلاغ، يجب متابعة الإجراءات القانونية مع الجهات المختصة. قد تطلب النيابة العامة أو الشرطة أدلة إضافية أو إفادات من الشاكي. يجب التعاون الكامل وتقديم أي معلومات قد تساعد في سير التحقيقات. يمكن للمحامي المتخصص أن يلعب دورًا فعالًا في متابعة القضية وضمان اتخاذ الإجراءات اللازمة في الوقت المناسب.

قد تتطلب العملية وقتًا وجهدًا، نظرًا لتعقيدات الجرائم الإلكترونية والتقنية. من المهم التحلي بالصبر والمثابرة، والتأكد من أن جميع الإجراءات القانونية تسير وفقًا للقانون لضمان حقوق الضحية والوصول إلى العدالة.

طلب التعويضات القانونية

في حالات نشر المواد المضللة التي تسبب ضررًا ماديًا أو معنويًا، يحق للضحية المطالبة بالتعويضات القانونية. يمكن رفع دعوى مدنية للمطالبة بتعويض عن الأضرار التي لحقت بالسمعة أو خسارة الدخل أو أي خسائر أخرى ناجمة عن التضليل. يجب تقديم إثبات للضرر الذي وقع، وتقدير قيمة التعويض المطلوب.

تُعد هذه الخطوة جزءًا مهمًا من استرداد الحقوق ورد الاعتبار للضحية. يستطيع المحامي المتخصص في القانون المدني أو الجنائي تقدير حجم التعويضات الممكنة، وتمثيل الضحية أمام المحاكم للحصول على الحكم المناسب. يهدف التعويض إلى جبر الضرر الذي لحق بالضحية وإعادة الأمور إلى نصابها قدر الإمكان.

عناصر إضافية لتعزيز الحماية

التعاون الدولي في مكافحة الظاهرة

نظرًا للطبيعة العابرة للحدود للإنترنت والذكاء الاصطناعي، فإن مكافحة نشر المواد المضللة تتطلب تعاونًا دوليًا وثيقًا. يجب على الدول تبادل المعلومات والخبرات، وتنسيق الجهود التشريعية والتنفيذية. يمكن أن تسهم الاتفاقيات الدولية في تسهيل تسليم المجرمين الإلكترونيين وتبادل الأدلة الرقمية عبر الحدود.

المشاركة في المنظمات والمؤتمرات الدولية المعنية بالأمن السيبراني وجرائم المعلومات تتيح للدول الاستفادة من أفضل الممارسات وتوحيد الجهود لمواجهة هذه التهديدات العالمية. بناء شبكات تعاون بين الأجهزة الأمنية والقضائية عبر الدول يعد أمرًا حيويًا لتتبع الجناة والحد من انتشار المحتوى المضلل العابر للحدود.

المسؤولية الأخلاقية لمطوري الذكاء الاصطناعي

لا تقتصر المسؤولية في مكافحة المحتوى المضلل على الجانب القانوني فحسب، بل تمتد لتشمل الجانب الأخلاقي، خاصة لمطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي. يجب على الشركات والأفراد الذين يطورون تقنيات الذكاء الاصطناعي أن يتحملوا مسؤولية أخلاقية لضمان أن تقنياتهم لا تُستخدم في أغراض ضارة مثل نشر التضليل.

يتعين عليهم دمج مبادئ التصميم الأخلاقي، مثل الشفافية، المساءلة، والعدالة، في تطوير أنظمتهم. يجب عليهم أيضًا بناء آليات حماية داخلية تمنع أو تحد من إساءة استخدام هذه التقنيات لإنتاج محتوى مضلل. يمكن أن يشمل ذلك وضع قيود على قدرات التوليد، أو دمج علامات مائية رقمية للمحتوى المنتج بالذكاء الاصطناعي.

تحديث القوانين لمواكبة التطور التكنولوجي

لضمان فعالية الإطار القانوني في مكافحة نشر المواد المضللة عبر الذكاء الاصطناعي، يجب أن تكون القوانين مرنة وقابلة للتكيف مع التطورات التكنولوجية السريعة. يتطلب ذلك مراجعة دورية للتشريعات القائمة وتحديثها باستمرار لضمان مواكبتها لأحدث التقنيات والأساليب التي يمكن استخدامها في التضليل.

يجب أن يشارك خبراء التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صياغة التشريعات الجديدة لضمان فهم دقيق للجوانب الفنية للمشكلة. هذا التعاون بين المشرعين والتقنيين سيضمن أن القوانين ليست فقط رادعة، بل قابلة للتطبيق بفعالية في بيئة رقمية تتغير باستمرار.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock