التحريض على العنف عبر منصات التواصل
التحريض على العنف عبر منصات التواصل: تحديات وحلول قانونية
فهم طبيعة التحريض وخطورته في الفضاء الرقمي
تُشكل منصات التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكنها في الوقت ذاته تحمل تحديات قانونية وأخلاقية جسيمة، أبرزها ظاهرة التحريض على العنف. تتنامى هذه الظاهرة مع سهولة نشر المحتوى وتعدد أشكال التعبير، مما يستدعي فهمًا عميقًا لكيفية مواجهتها قانونيًا وعمليًا لحماية الأفراد والمجتمعات من أضرارها المتزايدة.
أولاً: الإطار القانوني لمكافحة التحريض على العنف
تعريف التحريض في القانون المصري
يُعد التحريض على العنف جريمة يُعاقب عليها القانون المصري، وتتمثل في دفع أو حث شخص أو مجموعة أشخاص لارتكاب أفعال عنف أو أعمال إرهابية. لا يُشترط لتحقق الجريمة وقوع العنف بالفعل، بل يكفي مجرد الدعوة إليه أو التشجيع عليه، سواء كان ذلك بلفظ أو كتابة أو إشارة.
تختلف العقوبات المترتبة على جريمة التحريض باختلاف جسامة الفعل المحرَّض عليه، والنية الجنائية الكامنة وراءه. يولي القانون أهمية قصوى لمكافحة هذه الظاهرة نظرًا لآثارها السلبية على الأمن والسلم المجتمعي.
القوانين المنظمة لجرائم الإنترنت والتحريض
يتناول القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات (قانون مكافحة جرائم الإنترنت) بشكل خاص الجرائم التي تُرتكب عبر الفضاء السيبراني، بما في ذلك التحريض. يهدف هذا القانون إلى تنظيم استخدام التكنولوجيا وضمان عدم استغلالها في ارتكاب الجرائم.
تنص مواد هذا القانون على عقوبات مشددة لكل من يقوم بالتحريض على العنف أو الكراهية أو أي أفعال إجرامية أخرى باستخدام وسائل تقنية المعلومات. كما يمنح القانون الأجهزة المختصة صلاحيات لجمع الأدلة والتحقيق في هذه الجرائم.
ثانياً: خطوات عملية للإبلاغ عن التحريض على العنف
الإبلاغ الفوري عبر منصات التواصل الاجتماعي
تُقدم معظم منصات التواصل الاجتماعي أدوات للإبلاغ عن المحتوى المخالف لسياساتها، بما في ذلك المحتوى الذي يحرض على العنف. يجب على المستخدمين الإسراع في الإبلاغ عن أي منشورات أو حسابات تحرض على العنف بمجرد اكتشافها.
تتم هذه العملية عادةً بالضغط على خيار “الإبلاغ” أو “Report” الموجود بجوار المنشور أو الحساب المخالف، ثم اختيار السبب المناسب للإبلاغ مثل “محتوى يحرض على الكراهية” أو “العنف”. يساهم الإبلاغ المتكرر من عدة مستخدمين في تسريع عملية مراجعة المنصة واتخاذ الإجراءات اللازمة.
تقديم بلاغ رسمي للجهات الأمنية المتخصصة
في الحالات التي يتجاوز فيها التحريض مجرد مخالفة لسياسات المنصة ويصل إلى حد الجريمة الجنائية، يجب تقديم بلاغ رسمي للجهات الأمنية. في مصر، يمكن تقديم هذه البلاغات إلى قطاع مكافحة جرائم تقنية المعلومات والاتصالات بوزارة الداخلية.
يُنصح بجمع أكبر قدر ممكن من الأدلة قبل تقديم البلاغ، مثل لقطات شاشة (screenshots) للمحتوى المحرض، وروابط المنشورات أو الحسابات المخالفة، وأي معلومات أخرى ذات صلة. كلما كانت الأدلة واضحة وكاملة، كلما سهلت عملية التحقيق.
يمكن تقديم البلاغ شخصيًا في أقسام الشرطة أو إدارات مكافحة جرائم الإنترنت، أو من خلال بعض الآليات الإلكترونية المتاحة إن وجدت. يجب أن يتضمن البلاغ تفاصيل دقيقة عن الواقعة والشخص أو الجهة المحرضة.
ثالثاً: الحلول المتاحة للمتضررين من التحريض
طلب إزالة المحتوى المخالف
بعد الإبلاغ عن المحتوى المحرض، يمكن للمتضرر متابعة طلبه مع الجهات المختصة أو مع إدارة المنصة مباشرة لضمان إزالة المحتوى. إزالة المحتوى تُعد خطوة أولى وحاسمة للحد من انتشار التحريض وأثره السلبي.
في بعض الأحيان، قد يتطلب الأمر تواصلًا قانونيًا مباشرًا مع المنصة من خلال محامٍ متخصص، خاصة إذا كانت المنصة لا تستجيب بشكل فعال للإبلاغات المتكررة. يهدف هذا الإجراء إلى فرض الإزالة القانونية للمحتوى.
رفع دعوى قضائية للمطالبة بالتعويض
إذا ترتب على التحريض أضرار نفسية أو مادية على فرد أو كيان معين، يحق للمتضرر رفع دعوى قضائية للمطالبة بالتعويض عن هذه الأضرار. تُعد هذه الدعاوى جزءًا من القانون المدني، وتُرفع أمام المحاكم المدنية المختصة.
يتطلب رفع الدعوى القضائية إثبات الضرر الناتج عن التحريض، ووجود علاقة سببية بين التحريض والضرر. يمكن للمتضرر الاستعانة بخبير قانوني لتقدير حجم الأضرار والمطالبة بالتعويض المناسب وفقًا للقانون.
طلب حجب المواقع أو الحسابات المحرضة
في الحالات القصوى التي يُشكل فيها موقع أو حساب معين مصدرًا دائمًا للتحريض على العنف، يمكن للجهات القضائية إصدار قرارات بحجب هذه المواقع أو الحسابات داخل الدولة. يتم ذلك بعد تحقيقات مستفيضة تُثبت تورط هذه الجهات في أنشطة تحريضية ممنهجة.
يُعد حجب المواقع إجراءً استثنائيًا يهدف إلى حماية الأمن القومي والمجتمعي من المخاطر الجسيمة التي قد تُحدثها منصات التحريض. يتطلب هذا الإجراء موافقة قضائية ويتم تنفيذه بالتنسيق مع مقدمي خدمات الإنترنت.
رابعاً: الوقاية والتوعية المجتمعية
تعزيز الوعي الرقمي والأخلاقي
يُعتبر تعزيز الوعي الرقمي والأخلاقي بين أفراد المجتمع خطوة أساسية للوقاية من ظاهرة التحريض. يجب تعليم الأفراد، وخاصة الشباب، كيفية التمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى المحرض، وأهمية التفكير النقدي قبل تصديق أو مشاركة أي معلومات.
تشمل التوعية أيضًا تثقيف الجمهور حول العواقب القانونية لنشر أو تداول المحتوى المحرض، وكيفية حماية أنفسهم وبياناتهم الشخصية على الإنترنت. يجب أن تكون هذه الجهود مستمرة وشاملة، وتستهدف جميع الفئات العمرية.
دور المؤسسات التعليمية والمجتمع المدني
تلعب المؤسسات التعليمية دورًا حيويًا في غرس القيم الأخلاقية والمسؤولية الرقمية لدى الطلاب. يمكن للمدارس والجامعات إدراج برامج تعليمية حول الاستخدام الآمن والمسؤول للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
كما يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني مسؤولية كبيرة في تنظيم حملات توعية وورش عمل تستهدف الجمهور العام، لشرح مخاطر التحريض وكيفية التعامل معه. هذه الشراكة بين الجهات المختلفة تُعزز من قدرة المجتمع على مواجهة هذه الظاهرة بفعالية.
خامساً: التعاون الدولي لمكافحة التحريض العابر للحدود
التحديات القانونية للتحريض الدولي
تُشكل ظاهرة التحريض على العنف عبر منصات التواصل تحديًا دوليًا كبيرًا، نظرًا لأن هذه المنصات تتخطى الحدود الجغرافية. يصبح تتبع المحرضين ومحاكمتهم أمرًا معقدًا عندما يكونون في دول مختلفة، مما يتطلب تنسيقًا قانونيًا بين الدول.
تختلف القوانين المنظمة للتحريض وجرائم الإنترنت من دولة لأخرى، مما يُصعب أحيانًا من عملية تسليم المجرمين أو التعاون في جمع الأدلة. هذا الوضع يستدعي تطوير اتفاقيات ومعاهدات دولية موحدة لمكافحة هذه الجرائم.
أهمية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية
يُعد إبرام وتفعيل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية أمرًا بالغ الأهمية لمكافحة التحريض على العنف عبر الإنترنت. تُمكن هذه الاتفاقيات الدول من تبادل المعلومات والخبرات، وتسهيل الإجراءات القانونية مثل طلبات المساعدة القضائية وتسليم المجرمين.
من الأمثلة على هذه الجهود اتفاقية بودابست بشأن الجرائم الإلكترونية، التي تُقدم إطارًا قانونيًا للتعاون الدولي في مجال الجرائم المتعلقة بتقنية المعلومات. المشاركة الفعالة في مثل هذه الاتفاقيات تُعزز من قدرة الدول على التصدي للتهديدات العابرة للحدود.
خاتمة
يُعتبر التحريض على العنف عبر منصات التواصل الاجتماعي تحديًا معقدًا يتطلب نهجًا متعدد الأوجه. من خلال تطبيق القوانين الصارمة، وتمكين الأفراد من الإبلاغ الفعال، وتقديم حلول تعويضية للمتضررين، وتعزيز الوعي المجتمعي، يمكننا العمل معًا لبناء بيئة رقمية أكثر أمانًا ومسؤولية.
إن مواجهة هذه الظاهرة ليست مسؤولية الحكومات وحدها، بل هي مسؤولية مشتركة تتطلب تضافر جهود الأفراد والمؤسسات والمنصات الرقمية لضمان استخدام آمن وإيجابي للتكنولوجيا في خدمة المجتمع.