أثر الدافع في تخفيف أو تشديد العقوبة
محتوى المقال
أثر الدافع في تخفيف أو تشديد العقوبة
السلطة التقديرية للقاضي في تقدير أثر الباعث على الجريمة
في ساحات القضاء، لا يُنظر إلى الجريمة كفعل مادي مجرد، بل كحدث له أبعاد نفسية واجتماعية. يأتي “الدافع” أو “الباعث” على ارتكاب الجريمة كأحد أهم هذه الأبعاد. ورغم أن الدافع لا يعد ركناً من أركان الجريمة في أغلب الأحيان، إلا أنه يلعب دوراً محورياً في تحديد مصير المتهم. فهو الخيط الخفي الذي قد يقود القاضي إلى تخفيف العقوبة إلى أدنى حدودها، أو تشديدها إلى أقصاها. هذا المقال يقدم دليلاً عملياً لفهم كيفية تأثير الدافع على العقوبة في النظام القانوني المصري، والخطوات التي يمكن اتباعها لإبراز هذا الأثر أمام المحكمة.
فهم الدافع وأثره القانوني في تخفيف العقوبة
ما هو الدافع (الباعث) في نظر القانون؟
يجب التمييز بوضوح بين الدافع والقصد الجنائي. فالقصد الجنائي هو نية ارتكاب الفعل الإجرامي مع العلم بأركانه ونتيجته، وهو ركن أساسي لقيام الجريمة. أما الدافع، فهو العامل النفسي أو الباعث الذي حرك إرادة الجاني لارتكاب الجريمة. قد يكون الدافع نبيلاً، كالدفاع عن العرض، أو دنيئاً، كالرغبة في الانتقام أو الحسد. القانون لا يشترط وجود دافع معين لقيام الجريمة، لكن وجوده وتحديد طبيعته يؤثران بشكل مباشر على السلطة التقديرية التي يملكها القاضي عند تحديد العقوبة المناسبة للفعل المرتكب.
حالات يكون فيها الدافع سبباً لتخفيف العقوبة (الظروف المخففة)
يمنح القانون القاضي سلطة واسعة لتخفيف العقوبة إذا وجد في القضية ظروفاً تستدعي الرأفة. وتعتبر الدوافع النبيلة أو الشريفة من أبرز هذه الظروف. على سبيل المثال، قد يرتكب شخص جريمة اعتداء بالضرب على من حاول سرقته بالإكراه، هنا الدافع هو الدفاع عن النفس والمال. كذلك، قد يكون الاستفزاز الشديد الذي لا يبلغ مرتبة العذر القانوني دافعاً قوياً لتخفيف العقوبة، كأن يتعرض شخص لإهانات متكررة ومستفزة تدفعه لارتكاب جريمة. في هذه الحالات، ينظر القاضي إلى الباعث على الجريمة كعامل يقلل من خطورة الجاني ويبرر استخدام الرأفة معه.
خطوات عملية لإثبات الدافع الشريف أمام المحكمة
إثبات الدافع النبيل ليس مهمة سهلة ويتطلب استراتيجية دفاع محكمة. الخطوة الأولى هي جمع الأدلة التي تدعم وجود هذا الدافع، مثل شهادة الشهود الذين يمكنهم تأكيد وقوع استفزاز أو اعتداء سابق من المجني عليه. يمكن أيضاً تقديم رسائل أو تسجيلات أو أي مستندات أخرى تثبت الحالة النفسية التي كان يمر بها المتهم قبل ارتكاب الفعل. الخطوة الثانية تتمثل في دور محامي الدفاع، الذي يجب أن يركز في مرافعته على إبراز هذا الدافع للقاضي، وربطه بظروف وملابسات الواقعة، وتوضيح كيف أن هذا الباعث ينم عن شخصية غير إجرامية بطبيعتها، مما يجعل المتهم جديراً بالرأفة.
متى يؤدي الدافع إلى تشديد العقوبة؟
الدوافع الدنيئة وأثرها في التشديد
كما أن الدافع النبيل قد يقود إلى الرأفة، فإن الدافع الخسيس أو الدنيء يعتبر ظرفاً مشدداً يترك للقاضي تقديره. الدافع الدنيء هو ذلك الباعث الذي يكشف عن خطورة إجرامية كامنة في نفس الجاني وتجرده من المشاعر الإنسانية. من أبرز الأمثلة على ذلك ارتكاب جريمة القتل بدافع سرقة مبلغ زهيد من المال، أو ارتكابها بدافع الحسد أو الانتقام لوقائع تافهة. في هذه الحالات، يرى القاضي أن الباعث على الجريمة يعكس شراً عميقاً لدى الجاني، مما يستدعي توقيع أقصى عقوبة ممكنة لتحقيق الردع العام والخاص وحماية المجتمع من خطورته.
جرائم محددة يشدد فيها القانون العقوبة بسبب الدافع
في بعض الجرائم، لم يترك المشرع مسألة تشديد العقوبة بسبب الدافع للسلطة التقديرية للقاضي فقط، بل نص صراحة على اعتباره ظرفاً مشدداً وجوبياً. جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد هي المثال الأبرز، حيث إن الدافع هنا يكون وليد تفكير هادئ ومسبق، مما يجعله أكثر خطورة. كذلك، في الجرائم الإرهابية، يعتبر الدافع المتمثل في بث الرعب وتكدير السلم العام ظرفاً مشدداً أساسياً يرفع العقوبة إلى أقصى درجاتها. وهنا، تعمل النيابة العامة على إثبات هذا الدافع المحدد بكافة طرق الإثبات لإقناع المحكمة بتطبيق الظرف المشدد.
إجراءات عملية وحلول إضافية
دور النيابة العامة في التحقيق حول الدافع
لا يقتصر البحث عن الدافع على فريق الدفاع فقط، بل هو جزء أصيل من عمل النيابة العامة منذ اللحظة الأولى للتحقيق. فسؤال المتهم عن سبب ارتكابه للجريمة هو سؤال جوهري في محاضر الاستجواب. تسعى النيابة العامة من خلال تحقيقاتها، سواء عبر سماع الشهود أو إجراء المعاينات أو فحص الأدلة، إلى كشف الباعث الحقيقي وراء الجريمة. فهذا يساعدها على تكوين صورة كاملة عن الواقعة وتكييف التهمة بشكل صحيح، وتحديد ما إذا كان الدافع يستوجب المطالبة بتشديد العقوبة أمام المحكمة لخطورته على المجتمع.
أهمية تقارير الخبراء (الطب الشرعي والنفسي)
في كثير من القضايا المعقدة، قد يكون الدافع غامضاً أو غير منطقي. هنا، تظهر أهمية اللجوء إلى الخبراء كحل منطقي وبسيط لفهم الأبعاد النفسية للجريمة. يمكن للمحكمة أو لأي من الخصوم طلب ندب خبير نفسي أو طبيب شرعي لفحص المتهم وتقييم حالته العقلية والنفسية وقت ارتكاب الجريمة. التقرير الذي يقدمه الخبير يمكن أن يسلط الضوء على وجود اضطرابات نفسية أو ضغوط شديدة كانت دافعاً لارتكاب الفعل، مما يوفر للمحكمة رؤية علمية وموضوعية تساعدها في تقدير العقوبة بشكل عادل، سواء بالتخفيف أو التشديد.
نصائح قانونية للمتهم وفريق دفاعه
أهم نصيحة للمتهم هي المصارحة الكاملة مع محاميه بشأن كافة الظروف والدوافع التي أدت إلى ارتكاب الفعل. فإخفاء الدافع الحقيقي قد يضعف موقف الدفاع ويحرمه من استخدام أداة قانونية فعالة. يجب على المحامي الماهر أن يستمع جيداً لموكله، ثم يعمل على بناء استراتيجية دفاع تستغل الدافع لصالح المتهم. قد يكون ذلك من خلال إظهار نبله وشرفه لطلب الرأفة، أو من خلال تفنيد ادعاءات النيابة العامة بوجود دافع دنيء، أو حتى من خلال توضيح أن الفعل تم بلا دافع واضح مما قد يشير إلى اضطراب لحظي.