الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالدعاوى المدنيةالقانون المدنيالقانون المصري

متى يجوز العدول عن الشهادة في القضايا المدنية؟

متى يجوز العدول عن الشهادة في القضايا المدنية؟

فهم الشروط والإجراءات القانونية للعدول عن الشهادة وتبعاته

تعتبر الشهادة من أهم أدلة الإثبات في القضايا المدنية، إذ تسهم بشكل كبير في تكوين قناعة المحكمة حول وقائع النزاع. ولكن قد يجد الشاهد نفسه في موقف يستدعي العدول عن شهادته لأسباب مختلفة بعد تقديمها. فما هي الشروط التي تحكم هذا العدول؟ وما هي الإجراءات القانونية الواجب اتباعها للرجوع عن الأقوال؟ وهل يترتب على ذلك أية آثار قانونية على الدعوى أو على الشاهد نفسه؟ يهدف هذا المقال إلى تقديم شرح مفصل ومتكامل حول متى يجوز العدول عن الشهادة في القضايا المدنية وفقاً لأحكام القانون المصري، مع التركيز على الجوانب العملية والحلول الممكنة التي تضمن حماية الحقوق.

مفهوم الشهادة ودورها في الإثبات المدني

تعريف الشهادة وقيمتها الإثباتية

متى يجوز العدول عن الشهادة في القضايا المدنية؟الشهادة في القضايا المدنية هي إفادة شفهية أو مكتوبة يدلي بها شخص (الشاهد) أمام المحكمة حول وقائع رآها أو سمعها أو أدركها بحواسه، وتكون هذه الوقائع ذات صلة بموضوع النزاع. تعتبر الشهادة دليلاً إثباتياً هاماً، خاصة في المسائل التي يصعب إثباتها بالكتابة، وتترك لقناعة القاضي تقدير قوتها الإثباتية بعد بحث ظروفها وملابساتها المختلفة. يوجب القانون حلف اليمين قبل الإدلاء بالشهادة لضمان صدق الشاهد. تشكل هذه الأقوال حجر الزاوية في بناء تصور المحكمة للحقيقة.

تكتسب الشهادة أهميتها من كونها رواية مباشرة لأحداث معينة، وقد تكون هي الدليل الوحيد المتاح في بعض الدعاوى. ولذلك، يولي القانون أهمية كبرى لصدق الشاهد ودقة أقواله، ويضع شروطاً وضوابط للإدلاء بها وقبولها. إن الحقيقة القضائية غالباً ما تعتمد على تضافر الأدلة، وتأتي الشهادة لتكمل الصورة أو تؤكد عناصرها، مما يدعم قناعة المحكمة ويسهم في الوصول إلى حكم عادل ومبني على أسس سليمة.

الأسباب المشروعة للعدول عن الشهادة

اكتشاف حقائق جديدة أو أدلة قاطعة

يعد اكتشاف حقائق جوهرية جديدة لم تكن معلومة للشاهد وقت الإدلاء بالشهادة الأولى من أهم الأسباب التي تبرر العدول عنها. إذا تبين للشاهد وجود مستندات قاطعة أو شهادات أخرى تدحض أقواله السابقة، أو تكشف جانباً غامضاً يغير من طبيعة الواقعة، فمن حقه بل من واجبه الأخلاقي والقانوني أن يعدل عن شهادته. هذا يضمن أن الحقيقة النهائية هي التي ستبنى عليها قرارات المحكمة، ويحمي الشاهد من الإبقاء على معلومات خاطئة.

الوقوع في خطأ مادي أو سهو غير مقصود

قد يخطئ الشاهد في رواية بعض التفاصيل الدقيقة بسبب السهو أو ضعف الذاكرة أو سوء فهم السؤال الموجه إليه. إذا أدرك الشاهد بعد الإدلاء بشهادته أنه قد أخطأ في سرد واقعة معينة، أو نسي ذكر تفصيلة جوهرية، أو كان هناك لبس في أقواله، يحق له طلب العدول لتصحيح هذا الخطأ المادي. يجب أن يكون هذا الخطأ غير مقصود وليس بقصد التضليل أو الكيد، ويهدف إلى إظهار الحقيقة كما هي بالفعل دون أي تحريف.

التعرض لضغط أو إكراه قبل أو أثناء الشهادة

في بعض الأحيان، قد يتعرض الشاهد لضغوط نفسية أو مادية، أو تهديد مباشر يدفعه للإدلاء بشهادة لا تتفق مع الحقيقة. إذا تمكن الشاهد من إثبات تعرضه لإكراه مادي أو معنوي دفعه لتغيير أقواله، أو إخفاء معلومات جوهرية، فإن ذلك يبرر له طلب العدول عن تلك الشهادة. يجب على الشاهد في هذه الحالة أن يوضح للمحكمة طبيعة الضغط الذي تعرض له والأدلة التي تثبت ذلك، لضمان صحة وسلامة إرادته عند الشهادة.

تغيير القناعة الشخصية بناءً على براهين جديدة

قد تتغير قناعة الشاهد بشأن صحة واقعة معينة بعد مراجعة ذاتية عميقة، أو بعد أن تظهر له براهين وأدلة أخرى تجعله يشك في صحة ما أدلى به سابقاً. هذا التغير في القناعة يجب أن يكون مبنياً على أسس منطقية ومعلومات حقيقية وليست مجرد تذبذب. على الشاهد أن يبين للمحكمة الأسباب التي أدت إلى تغيير قناعته، وأن يقدم ما يدعم ذلك من مستندات أو معلومات ليتم الأخذ بعدوله على محمل الجد.

الإجراءات القانونية للعدول عن الشهادة

تقديم طلب رسمي إلى المحكمة المختصة

تبدأ عملية العدول عن الشهادة بتقديم طلب رسمي إلى المحكمة التي تنظر الدعوى. يجب أن يتضمن هذا الطلب بياناً واضحاً لرغبة الشاهد في العدول عن شهادته السابقة، مع ذكر رقم الدعوى وتاريخ الجلسة التي أدلى فيها بالشهادة الأولى. من الضروري أن يشرح الطلب الأسباب التي دفعته لهذا العدول بوضوح وإيجاز، ويفضل إرفاق أي مستندات أو أدلة جديدة تدعم موقفه، مثل رسائل بريد إلكتروني أو شهادات أخرى. هذا الطلب يعد بمثابة إخطار رسمي للمحكمة برغبة الشاهد.

الإقرار بالعدول وحلف اليمين أمام القاضي

بعد تقديم الطلب، ستقوم المحكمة بتحديد جلسة لاستماع أقوال الشاهد مجدداً. في هذه الجلسة، يُطلب من الشاهد الإقرار بالعدول عن شهادته السابقة أمام القاضي، ثم يحلف اليمين على صدق أقواله الجديدة. يجب على الشاهد أن يوضح الأسباب التي دفعته للعدول بصراحة ودون تردد، وأن يدلي بالشهادة الصحيحة التي يراها مطابقة للحقيقة الآن. يتأكد القاضي من وعي الشاهد وإدراكه الكامل لخطورة حلف اليمين وتبعاته، وأن العدول جاء بإرادته الحرة.

تقديم الأدلة الداعمة للعدول

لتعزيز مصداقية العدول عن الشهادة، ينبغي على الشاهد تقديم أي مستندات أو أدلة مادية أو أقوال شهود آخرين تدعم روايته الجديدة. فمثلاً، إذا كان سبب العدول هو اكتشاف مستند جديد، يجب تقديمه للمحكمة. وإن كان السبب هو التعرض لإكراه، فيجب تقديم ما يثبت ذلك. هذه الأدلة تساعد المحكمة على فهم سبب العدول وتقييم مدى صحة الشهادة المعدول عنها والشهادة الجديدة، مما يعطي وزناً أكبر لأقوال الشاهد ويساهم في تحقيق العدالة.

العدول في مراحل مختلفة من التقاضي

يمكن العدول عن الشهادة في مراحل مختلفة من التقاضي، سواء كانت الدعوى ما زالت في مرحلة الاستئناف أو النقض، طالما لم يصدر حكم نهائي وبات في الدعوى. إذا كان العدول بعد صدور حكم ابتدائي، يمكن للمحكمة الاستئنافية أن تنظر في العدول وتقدر أثره على الحكم المطعون فيه. أما إذا صدر حكم نهائي، يصبح العدول صعباً جداً وقد يتطلب طرقاً غير عادية للطعن في الأحكام مثل التماس إعادة النظر، بشروط بالغة الصرامة.

الآثار القانونية المترتبة على العدول

تأثير العدول على قوة الإثبات

عندما يعدل الشاهد عن شهادته، تفقد شهادته الأولى قوتها الإثباتية بشكل كبير، وقد تعتبر المحكمة أن الشهادة الأولى لم تكن صحيحة أو موثوقة. تقوم المحكمة بوزن الشهادة الجديدة مع باقي الأدلة المقدمة في الدعوى، ويكون لها مطلق الحرية في الأخذ بالشهادة المعدلة كلياً أو جزئياً، أو عدم الأخذ بها إذا رأت أنها غير مقنعة أو جاءت بقصد التضليل. يعتمد الأمر على مدى اقتناع المحكمة بصدق الشاهد وأسباب عدوله.

الأثر على الحكم القضائي الصادر

إذا تم العدول عن الشهادة قبل صدور الحكم، فإن المحكمة ستأخذ العدول في الاعتبار عند إصدار قرارها، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير مسار الدعوى. أما إذا تم العدول بعد صدور حكم ابتدائي، فقد يكون ذلك سبباً للطعن على الحكم بالاستئناف أو النقض إذا كانت الشهادة المعدول عنها هي جوهر الإثبات. في هذه الحالة، ستعيد المحكمة الناظرة للطعن تقييم الأدلة بما في ذلك الشهادة المعدلة، وقد تقرر إلغاء الحكم السابق وإصدار حكم جديد بناءً على الأدلة المستجدة.

المسؤولية القانونية للشاهد بعد العدول

يجب على الشاهد أن يكون حذراً للغاية عند العدول عن شهادته. إذا تبين للمحكمة أن الشاهد قد تعمد الإدلاء بشهادة زور في المرة الأولى، أو أن عدوله عن الشهادة جاء بقصد التضليل أو تعطيل سير العدالة، فإنه قد يتعرض للمسؤولية الجنائية بتهمة شهادة الزور. ومع ذلك، إذا كان العدول ناتجاً عن خطأ حسن النية أو اكتشاف حقيقة جديدة، فلا تترتب عليه أي مسؤولية جنائية، بل يعتبر فعلاً إيجابياً لخدمة العدالة.

دور النيابة العامة في حالة الاشتباه بالزور

في حال اشتباه المحكمة في أن الشاهد قد أدلى بشهادة زور في المرة الأولى قبل العدول عنها، أو أن العدول نفسه يكتنفه الغموض، فإن المحكمة قد تحيل الأمر إلى النيابة العامة للتحقيق فيه. تتولى النيابة العامة حينئذٍ جمع الأدلة والتحقيق مع الشاهد لتحديد ما إذا كان هناك أي جريمة شهادة زور قد ارتكبت. هذا الإجراء يضمن عدم استغلال حق العدول في التحايل على القانون أو تضليل المحكمة، ويؤكد على جدية إجراءات التقاضي.

متى لا يجوز العدول عن الشهادة؟

بعد أن يصبح الحكم القضائي نهائياً وباتاً

بمجرد أن يصبح الحكم القضائي نهائياً وباتاً، أي استنفد جميع طرق الطعن العادية (الاستئناف والنقض)، فإنه لا يجوز العدول عن الشهادة بعد ذلك بأي طريقة عادية. فالحكم البات يحوز حجية الأمر المقضي به، ولا يمكن المساس به إلا في حالات استثنائية جداً منصوص عليها في القانون، مثل التماس إعادة النظر بناءً على ظهور مستندات قاطعة لم تكن معلومة وقت المحاكمة، وهذا يختلف عن مجرد العدول من قبل الشاهد.

إذا كان العدول بقصد الكيد أو تعطيل العدالة

إذا تبين للمحكمة أن العدول عن الشهادة لم يكن بدافع تصحيح خطأ أو إظهار الحقيقة، بل كان بقصد الكيد لأحد الخصوم، أو تعطيل سير العدالة، أو إطالة أمد التقاضي، فإن المحكمة لن تأخذ بهذا العدول. بل قد يعتبر ذلك محاولة لإساءة استخدام الحق، وقد يعرض الشاهد للمساءلة القانونية إذا ثبت سوء نيته. يجب أن يكون الدافع للعدول نبيلاً وهادفاً لإحقاق الحق وليس لمجرد التلاعب بإجراءات المحكمة.

نصائح عملية للشهود والمتقاضين

التأكد من صحة المعلومات ودقتها قبل الإدلاء بالشهادة

يجب على كل من يستدعى للشهادة التأكد من صحة ودقة المعلومات التي سيدلي بها قبل مثوله أمام المحكمة. مراجعة الأحداث والتفاصيل، والتفكير ملياً في كل ما رآه أو سمعه، يساعد على تقديم شهادة واضحة وصادقة من البداية. هذه الخطوة تقلل بشكل كبير من الحاجة إلى العدول عن الشهادة لاحقاً، وتضمن أن الشاهد يقدم أفضل ما لديه من معلومات دقيقة وموثوقة للمحكمة، مما يجنبه التعقيدات القانونية المحتملة.

طلب المشورة القانونية المتخصصة

في حال شعور الشاهد بأنه بحاجة للعدول عن شهادته، أو كان لديه أي شكوك حول كيفية التعامل مع الموقف، فإن الخطوة الأكثر حكمة هي طلب المشورة من محامٍ متخصص. يمكن للمحامي تقديم الإرشاد اللازم حول الإجراءات الصحيحة، وتبعات العدول، وكيفية صياغة الطلب بالشكل القانوني السليم. هذه المشورة تضمن أن الشاهد يتخذ قرارات مستنيرة ويتبع الطرق القانونية الصحيحة، ويحمي نفسه من أي تداعيات غير مرغوبة.

التوثيق الدقيق للأسباب الداعية للعدول

عند اتخاذ قرار العدول، يجب على الشاهد توثيق جميع الأسباب التي دفعته لذلك بدقة ووضوح. سواء كانت هذه الأسباب تتعلق باكتشاف مستندات جديدة، أو تذكر تفاصيل منسية، أو التعرض لضغط. يجب الاحتفاظ بأي دليل يدعم هذه الأسباب وتقديمه للمحكمة. التوثيق الجيد يعزز مصداقية الشاهد أمام المحكمة ويساعدها على فهم حقيقة الموقف، ويزيد من فرص قبول العدول والأخذ به بشكل إيجابي في مسار الدعوى.

عدم التردد في تصحيح الخطأ

إن العدول عن الشهادة بهدف تصحيح خطأ أو إظهار الحقيقة يعتبر فعلاً يخدم العدالة. لذا، لا يجب على الشاهد التردد في اتخاذ هذه الخطوة إذا كان لديه سبب مشروع ومقنع. إن الإصرار على شهادة غير صحيحة يمكن أن يؤدي إلى نتائج قضائية خاطئة ومسؤولية قانونية أكبر على المدى الطويل. الشجاعة في تصحيح الأخطاء تعكس حرص الشاهد على إحقاق الحق ودعمه للعدالة، وهو أمر تقدره المحكمة بشكل كبير.

الخاتمة

يظل العدول عن الشهادة في القضايا المدنية إجراءً قانونياً هاماً يهدف إلى ضمان سير العدالة وإظهار الحقيقة الكاملة أمام المحكمة. ورغم أنه حق للشاهد، إلا أنه مقيد بشروط وإجراءات صارمة تضمن عدم إساءة استخدامه. يجب على الشاهد أن يكون على دراية كاملة بهذه الشروط والتبعات، وأن يسعى دائماً لتقديم الشهادة الصادقة والدقيقة من البداية. وعند الضرورة للعدول، يجب أن يتم ذلك بشفافية تامة وبدعم من الأدلة، مع الاستعانة بالمشورة القانونية لضمان صحة الإجراء وخدمة العدالة. ففي نهاية المطاف، الهدف الأسمى هو الوصول إلى حكم عادل ومنصف مبني على الحقائق الثابتة.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock