الإجراءات القانونيةالإستشارات القانونيةالجرائم الالكترونيةالقانون المصريجرائم الانترنت

متى يعتبر “الفلترة” الإلكترونية انتهاكًا للخصوصية؟

متى يعتبر “الفلترة” الإلكترونية انتهاكًا للخصوصية؟

تحليل قانوني وعملي لحدود الفلترة الرقمية وحماية البيانات الشخصية

في عصر الرقمنة المتسارع، أصبحت “الفلترة الإلكترونية” أداة شائعة تستخدم لأغراض متعددة، تتراوح بين حماية الأطفال من المحتوى الضار، مروراً بضمان أمن الشبكات، وصولاً إلى الرقابة الحكومية أو المؤسسية. ومع تزايد استخدام هذه التقنيات، يبرز تساؤل جوهري حول متى يمكن أن تتحول هذه الفلترة من أداة حماية وتنظيم إلى انتهاك صارخ للخصوصية الرقمية وحرية الأفراد. إن فهم هذا الخط الفاصل يعد أمراً بالغ الأهمية في ظل القوانين المنظمة للحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، خاصة في التشريعات المصرية التي أولت اهتماماً كبيراً بهذا الحق.

مفهوم الفلترة الإلكترونية وأنواعها

متى يعتبر تشير الفلترة الإلكترونية إلى عملية تحليل أو فحص البيانات أو المحتوى الرقمي المار عبر الشبكات أو المخزن على الأجهزة، بهدف حظر أو السماح بمرور هذا المحتوى أو البيانات بناءً على معايير محددة مسبقاً. يمكن أن تكون هذه المعايير مرتبطة بالكلمات المفتاحية، أنواع الملفات، مصادر البيانات، أو سلوك المستخدمين. الفلترة أداة قوية يمكن أن تخدم أهدافاً مشروعة مثل الأمن السيبراني ومنع انتشار البرمجيات الخبيثة.

تتعدد أنواع الفلترة الإلكترونية وتتنوع تطبيقاتها. فهناك فلترة للمحتوى، وتهدف إلى حظر الوصول إلى مواقع إلكترونية أو مواد معينة تعتبر غير لائقة أو ضارة. وهناك فلترة البيانات التي تركز على تحليل البيانات لغرض استخراج معلومات معينة أو لمنع تسرب البيانات الحساسة من الشبكات. كما توجد فلترة الاتصالات التي تراقب المكالمات أو الرسائل الرقمية.

فلترة المحتوى

تُعد فلترة المحتوى أحد أبرز أنواع الفلترة، وتُطبق بشكل واسع في المدارس والمكتبات والشركات، وكذلك من قبل مقدمي خدمات الإنترنت. الهدف الأساسي منها هو منع الوصول إلى محتوى غير مرغوب فيه أو غير قانوني، مثل المواد الإباحية، أو المحتوى الذي يحض على الكراهية، أو المواقع التي تروج للعنف. هذه الفلترة تستخدم تقنيات مختلفة مثل حظر عناوين IP، أو تصفية الكلمات المفتاحية، أو تحليل سلوك المستخدمين.

على الرغم من الأهداف النبيلة لفلترة المحتوى، فإنها تثير مخاوف جدية بشأن الرقابة والتعدي على حرية التعبير. ففي بعض الأحيان، قد تحجب هذه الفلترة محتوى مشروعاً ومفيداً بسبب استخدام كلمات مفتاحية معينة أو بسبب التصنيف الخاطئ للمواقع. هذا يتطلب توازناً دقيقاً بين حماية المستخدمين وضمان الحق في الوصول إلى المعلومات دون قيود غير مبررة.

فلترة البيانات

تركز فلترة البيانات على تحليل وتصفية البيانات التي تمر عبر الأنظمة الرقمية. تستخدم هذه الفلترة على نطاق واسع في المؤسسات والشركات لحماية المعلومات الحساسة ومنع تسربها. يمكن أن تتضمن فلترة البيانات مراقبة البريد الإلكتروني للبحث عن مرفقات تحتوي على فيروسات، أو فحص الملفات التي يتم تحميلها أو تنزيلها لاكتشاف أي بيانات قد تشكل خطراً أمنياً. تسهم هذه العملية في تعزيز أمن المعلومات والامتثال للوائح.

لكن فلترة البيانات، عندما تطبق بشكل مفرط أو بدون أساس قانوني واضح، يمكن أن تتحول إلى أداة لجمع المعلومات الشخصية عن الأفراد أو لمراقبة سلوكهم على الإنترنت. هذا النوع من المراقبة يهدد مبدأ الخصوصية الرقمية، خاصة إذا تم جمع البيانات أو تحليلها دون علم المستخدمين أو موافقتهم، أو دون وجود مبرر قانوني قوي يسمح بذلك، مما يجعلها موضع جدل قانوني وأخلاقي.

الإطار القانوني لحماية الخصوصية في مصر

يولي القانون المصري أهمية كبرى لحماية الحق في الخصوصية، والذي يعتبر حقاً دستورياً وأساسياً من حقوق الإنسان. نصت الدساتير المصرية المتعاقبة على حماية الحياة الخاصة للمواطنين، بما في ذلك المراسلات والاتصالات. هذا الالتزام الدستوري يجد ترجمته في عدد من القوانين التي تهدف إلى تنظيم وحماية هذا الحق في السياق الرقمي المتطور.

الدستور المصري

يؤكد الدستور المصري لعام 2014 في المادة (57) على أن “للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. والمراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال مصونة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون.” هذا النص الدستوري يشكل الأساس المتين لحماية الخصوصية الرقمية في مصر ويضع قيوداً واضحة على أي تدخل في الاتصالات.

قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات

صدر القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات ليواكب التطورات في الجرائم الإلكترونية ويضع إطاراً قانونياً لها. يتضمن هذا القانون نصوصاً واضحة تجرم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والبيانات الشخصية عبر الوسائل الإلكترونية. فالمادة (25) من القانون تجرم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة، والمادة (26) تجرم انتهاك حرمة المراسلات أو المعلومات التي ترسل عبر الشبكة المعلوماتية أو وسائل تقنية المعلومات المختلفة دون وجه حق. هذه المواد توفر حماية قوية ضد أي فلترة غير مشروعة.

قوانين حماية البيانات الشخصية

رغم أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات يتناول جوانب من حماية البيانات، إلا أن مصر أصدرت مؤخراً القانون رقم 151 لسنة 2020 بشأن حماية البيانات الشخصية. هذا القانون يمثل نقلة نوعية في مجال حماية الخصوصية، حيث يضع قواعد تفصيلية لجمع ومعالجة وتخزين البيانات الشخصية، وينص على حقوق الأفراد في بياناتهم، ويفرض التزامات على الكيانات التي تتعامل مع هذه البيانات. القانون يلزم بضرورة الحصول على موافقة صريحة لمعالجة البيانات، ويحدد حالات استثنائية لمشاركتها، مما يحد من أي فلترة أو تحليل للبيانات بدون مسوغ قانوني.

الحالات التي تعتبر فيها الفلترة انتهاكًا للخصوصية

تصبح الفلترة الإلكترونية انتهاكاً للخصوصية عندما تتجاوز حدود القانون والأخلاق، أو عندما يتم تطبيقها دون مبرر قانوني واضح أو دون احترام حقوق الأفراد. ليس كل أنواع الفلترة تعتبر انتهاكاً، ولكن هناك حالات محددة تتجاوز فيها هذه العمليات الخطوط الحمراء لحماية الحياة الخاصة والبيانات الشخصية.

الفلترة بدون مسوغ قانوني

يُعد تطبيق الفلترة الإلكترونية على بيانات الأفراد أو اتصالاتهم دون وجود أمر قضائي مسبب، أو نص قانوني يجيز ذلك، انتهاكاً صارخاً للخصوصية. فالدستور المصري والقوانين المنظمة للاتصالات وحماية البيانات واضحة في أن أي تدخل في الحياة الخاصة يجب أن يكون بناءً على أمر قضائي محدد ولفترة زمنية محدودة وفي أضيق الحدود. الفلترة العشوائية أو التي تتم لأغراض غير مشروعة تقع ضمن هذا النطاق.

تجاوز حدود التفويض

حتى عندما يكون هناك تفويض قانوني أو إذن بالفلترة، فإن تجاوز حدود هذا التفويض يعتبر انتهاكاً للخصوصية. على سبيل المثال، إذا كان الإذن يتعلق بفلترة نوع معين من المحتوى الإجرامي، وتم استخدام الفلترة لمراقبة اتصالات شخصية أو جمع بيانات غير ذات صلة بالغرض المحدد، فإن ذلك يعد تجاوزاً غير مشروع. يجب أن تكون الفلترة محددة النطاق والمدة والهدف.

جمع البيانات الشخصية بدون موافقة

قيام جهات معينة بفلترة البيانات لجمع معلومات شخصية عن الأفراد (مثل سلوك التصفح، الاهتمامات، المراسلات) دون الحصول على موافقتهم الصريحة والمسبقة، يعتبر انتهاكاً جسيماً للخصوصية. القانون الجديد لحماية البيانات الشخصية يفرض التزاماً على كل من يقوم بجمع أو معالجة بيانات شخصية بالحصول على موافقة صاحب البيانات، ويحدد الحالات الاستثنائية التي يمكن فيها معالجة البيانات دون موافقة، لكنها تظل حالات ضيقة ومحددة.

الفلترة التمييزية

إذا تم تطبيق الفلترة الإلكترونية بشكل تمييزي ضد فئة معينة من الأفراد بناءً على عرقهم، دينهم، آرائهم السياسية، أو أي خصائص أخرى، فإن ذلك لا يعد فقط انتهاكاً للخصوصية، بل أيضاً انتهاكاً لمبادئ المساواة وعدم التمييز التي يكفلها الدستور والقوانين. الفلترة يجب أن تكون محايدة وموضوعية وتطبق على الجميع بنفس المعيار دون تحيز.

طرق حماية الخصوصية من الفلترة غير المشروعة

في مواجهة التحديات التي تفرضها تقنيات الفلترة، يمكن للأفراد اتخاذ عدد من الخطوات العملية لحماية خصوصيتهم الرقمية وتقليل مخاطر الفلترة غير المشروعة أو التطفلية. هذه الإجراءات تتراوح بين الحلول التقنية والسلوكيات الواعية.

التشفير

يُعد التشفير من أقوى الأدوات المتاحة لحماية خصوصية البيانات والاتصالات. عند تشفير البيانات، يتم تحويلها إلى صيغة غير قابلة للقراءة إلا بواسطة المفتاح الصحيح. استخدام خدمات التشفير الشامل (End-to-End Encryption) في تطبيقات المراسلة يضمن أن رسائلك لا يمكن قراءتها إلا من قبل المرسل والمستقبل. كما أن تفعيل HTTPS عند تصفح المواقع يضمن تشفير الاتصال بين جهازك والموقع، مما يحمي بياناتك من الاعتراض أثناء النقل.

استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN)

تُعد الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) وسيلة فعالة لتجاوز الفلترة وإخفاء نشاطك على الإنترنت. يعمل الـ VPN على إنشاء نفق آمن ومشفر بين جهازك وخادم بعيد، مما يخفي عنوان IP الحقيقي الخاص بك ويجعل من الصعب تتبع نشاطك أو فلترة المحتوى الذي تصل إليه. يفضل اختيار مزود VPN موثوق به لا يحتفظ بسجلات نشاط المستخدمين لضمان أقصى درجات الخصوصية. هذا يوفر حماية كبيرة ضد المراقبة أو الفلترة غير المرغوب فيها.

إعدادات الخصوصية وتحديث البرامج

يجب على المستخدمين مراجعة وتعديل إعدادات الخصوصية في جميع تطبيقاتهم وخدماتهم الرقمية (مثل متصفحات الويب، أنظمة التشغيل، تطبيقات التواصل الاجتماعي) لتقييد كمية البيانات التي يتم جمعها أو مشاركتها. كما أن الحفاظ على تحديث البرامج وأنظمة التشغيل أولاً بأول أمر بالغ الأهمية، حيث تحتوي التحديثات عادة على إصلاحات أمنية تسد الثغرات التي يمكن استغلالها لاختراق الخصوصية أو فرض الفلترة. هذه الإجراءات البسيطة تساهم بشكل كبير في تعزيز الأمان الشخصي.

الإجراءات القانونية المتاحة لمواجهة انتهاكات الخصوصية

عندما يقع انتهاك للخصوصية بسبب الفلترة الإلكترونية غير المشروعة، توفر القوانين المصرية عدة آليات يمكن للأفراد اللجوء إليها للمطالبة بحقوقهم ورفع الضرر. هذه الإجراءات تتطلب فهماً للإطار القانوني وكيفية تطبيق القانون.

تقديم الشكاوى للنيابة العامة

في حال تعرض أي شخص لانتهاك خصوصيته عبر الفلترة الإلكترونية، سواء بتسريب بيانات، أو التنصت على اتصالات، أو مراقبة غير قانونية، يمكنه التقدم بشكوى رسمية إلى النيابة العامة. النيابة العامة هي الجهة المخولة بالتحقيق في الجرائم، ومنها الجرائم الإلكترونية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. يجب تقديم كل الأدلة المتاحة لدعم الشكوى، مثل لقطات الشاشة أو أي دليل رقمي يثبت الانتهاك.

رفع الدعاوى المدنية

بالإضافة إلى الجانب الجنائي، يمكن للمتضرر من انتهاك الخصوصية رفع دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت به جراء هذا الانتهاك. تتطلب الدعوى المدنية إثبات الضرر والعلاقة السببية بين فعل الفلترة غير المشروعة والضرر الواقع. يمكن طلب التعويض عن الخسائر المالية المباشرة، أو عن الأضرار النفسية والمعنوية التي لحقت بالشخص المتضرر. هذه الدعاوى تهدف إلى جبر الضرر الناتج عن الاعتداء على الحياة الخاصة.

طلبات وقف وإزالة الانتهاك

في بعض الحالات، يمكن للمتضرر أن يطلب من القضاء، أو الجهات المختصة، إصدار أمر بوقف الفلترة غير المشروعة أو إزالة المحتوى الذي تم تجميعه بشكل غير قانوني. هذا الإجراء يسعى إلى وقف الضرر المستمر ومنع تفاقمه. يمكن تقديم طلب مستعجل للمحكمة المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف الانتهاك بشكل فوري، خاصة إذا كان يترتب عليه ضرر جسيم أو يصعب تداركه لاحقاً. هذه الإجراءات القضائية السريعة توفر حماية فعالة في حالات الطوارئ.

نصائح عملية لتعزيز الخصوصية الرقمية

إلى جانب الحلول القانونية والتقنية، هناك مجموعة من الممارسات اليومية التي يمكن للأفراد اتباعها لتعزيز حماية خصوصيتهم الرقمية وتقليل احتمالية الوقوع ضحية للفلترة أو المراقبة غير المشروعة. الوعي الرقمي والسلوك الحصيف هما مفتاح الأمان.

الوعي الرقمي والتثقيف

إن أفضل خط دفاع ضد انتهاكات الخصوصية هو الوعي الرقمي الشامل. يجب على الأفراد فهم كيفية عمل التقنيات الرقمية، المخاطر المحتملة، وكيف يمكن استغلال بياناتهم. التثقيف المستمر حول أحدث التهديدات الأمنية وطرق الحماية يساهم في بناء جدار حماية شخصي. قراءة سياسات الخصوصية للتطبيقات والمواقع، والتعرف على حقوقك كمستخدم، كلها خطوات أساسية لتعزيز هذا الوعي. المعرفة هي القوة في عالم رقمي سريع التغير.

التحقق من الأذونات وتجنب الروابط المشبوهة

قبل تثبيت أي تطبيق أو استخدام أي خدمة، يجب مراجعة الأذونات التي يطلبها التطبيق بعناية. هل يطلب تطبيق لتحرير الصور الوصول إلى قائمة جهات الاتصال الخاصة بك؟ هذا قد يكون مؤشراً على جمع بيانات غير ضرورية. يجب منح الأذونات الضرورية فقط للوظيفة الأساسية للتطبيق. بالإضافة إلى ذلك، تجنب النقر على الروابط المشبوهة في رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية، حيث يمكن أن تكون هذه الروابط بوابات لاختراق جهازك أو تثبيت برمجيات تتبع تساهم في الفلترة غير المرغوبة أو جمع البيانات.

ختاماً، بينما تلعب الفلترة الإلكترونية دوراً هاماً في الحماية والأمن، فإنها تحمل في طياتها خطراً حقيقياً على الخصوصية. إن فهم الإطار القانوني، واستخدام الأدوات التقنية الصحيحة، وتبني سلوكيات رقمية واعية، هي خطوات أساسية لضمان أن تبقى حياتنا الرقمية محمية وآمنة، وأن لا تتحول أدوات التنظيم إلى وسائل انتهاك للحقوق والحريات.

Dr. Mena Fayq

د. دكتوراة في القانون الجنائي الدولي، المحامي بالجنايات والجنايات المستأنفة، مستشار ومدرب دولي معتمد في القانون الجنائي الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock