المدرسة التقليدية الجديدة في تحديد أساس المسئولية الجنائية

القانون الجنائي المدرسة التقليدية الجديدة في تحديد أساس المسئولية الجنائية
المدرسة التقليدية الجديدة في تحديد أساس المسئولية الجنائية
المدرسة التقليدية الجديدة في تحديد أساس المسئولية الجنائية

الاسس الفكرية لهذه المدرسة

تقوم هذه المدرسة من حيث الجوهر على المبادئ التي نادت بها المدرسة التقليدية، لكن مع اقرار عناصر جديدة هامة في السياسة العقابية لسد النقص الذي بدى في تعاليم السياسة التقليدية، خاصة  ما تعلق بإهمال الطابع الشخصي للجريمة والاقتصار على الردع غرضاً للعقوبة، قد تأثر رجال هذه المدرسة بالفلسفة المثالية  الالمانية، وخاصة فلسفة (كانت) و (دي ميستر) و (هيجل ) .

أما (كانت) فقد ذهب الي القول بأن تحقيق العدالة المطلقة هي اساس حق الدولة في توقيع العقاب، فتقرير العقوبة ليس وسيلة لتحقيق منفعة، بل هو فقط تطبيق لجزاء عادل، ذلك ان طبيعة الانسان ليست من طبيعة الاشياء يضحي بها من اجل هدف نفعي مجرد، أذن فالعقوبة ضرورية لا لأنها نافعة، ولكن لأن العقل يأمر بها كرد فعل مساو ومضاد للفعل الاجرامي كما عبرت عنه الارادة الاخلاقية. 

وضرب (كانت) مثلة الشهير الذي يعرف بالجزيرة المهجورة وخلاصته ان جماعة كانت تعيش على جزيرة ثم قررت فيما بينهما أن تهاجر منها إلي القارة، وكان احد أفراد الجماعة محكوم عليه بالإعدام، فعلى الجماعة ان تنفذ حكم الاعدام قبل ان يتفرق اعضاؤها كل في حال سبيلة، وهذا التنفيذ خال من أي نفع للجماعة لأنها  بسبيلها لإلي الزوال، ولكن القواعد الاخلاقية تتطلب ذلك تحقيقاً للعدالة.

ولقد انحاز لفكرة العدالة ايضاً الفيلسوف الفرنسي (جوزيف دي ميستر)، فاستبعد ان يكون للعقوبة هدف نفعي، وقد غلب على اراء هذا المفكر الطابع الديني ففسر العقوبة بأنها تكفير عن الذنب وارضاء العدالة الالهية.

ومن ابرز أنصار هذه المثالية الالمانية أيضاً الفيلسوف الالماني (جورج هيجل) الذي يتفق مع سابقيه في البحث عن العدالة، وإن استند الى تحليل منطقي مختلف يقود الى عين النتيجة، فالجريمة عندوه تنطوي على نفي للعدالة التي ينهض عليها النظام القانوني وفي توقيع العقاب على مرتكبها نفي لهذا النفي، أي عودة الى العدالة التي كانت سائدة قبل ارتكابها.

إلا ان فكرة العدالة المطلقة وإن كان لم يكتب لها الانتشار الا انها اعطت المجال للمدرسة التقليدية الجديدة التي دعا زعماؤها وعلى رأسهم  رومي و كرارا و كوسان إلى الجمع بين فكرتي العدالة والمنفعة الاجتماعية.

ويتفاوت انصار المدرسة في مدى ترجيح أحد الاعتبارين على الاخر، غير انه يظل للعقوبة دوماً هدفان هما:

تحقيق العدالة والمحافظة على النظام الاجتماعي، فالمشرع يجب أن يعاقب على ارتكاب افعال معينة متى كان ذلك ضرورياً لضمان انتظام الحياة في المجتمع، ولكن لا يمكنه أن يعاقب الا تطبيقاً للعدالة وفي حدودها ,ومن ثم فمقياس العقاب في عرف هذه المدرسة لا يتجاوز ما تفرضه العدالة والا يزيد ما تقتضيه  المنفعة الاجتماعية.

ولعل أبرز ممثلي هذا الاتجاه (فرانشسكو كرارا) الذي اسس حق العقاب على الحماية القانونية، أما هدف العقوبة فهو أعادة اقرار النظام الخارجي وليس اصلاح المجرم، فهذه الفكرة الاخيرة يجب ان تظل خارج دائرة القانون الجنائي. 

ذلك ان الاصلاح لا يستقيم مع العقاب فالأول يعني التثقيف و التقويم اي ايقاع خير عظيم بالجاني، بينما العقاب يعني الجزاء والايلام، أي ايقاع شر بالجاني ,ومن ثم هما فكرتان متعارضتان، ونجد واضحاً في افكار هذه الفقيه الجمع بين العنصر الاخلاقي والعنصر النفعي للعقوبة، ومبدأ العدالة كأساس لسلطة العقاب ومبدأ المحافظة على النظام الاجتماعي كهدف لهذه السلطة.

أساس المسؤولية الجنائية لدى هذه المدرسة

تتفق هذه المدرسة مع المدرسة التقليدية الاولى في ان اساس المسؤولية الجنائية يقوم على مبدأ حرية الاختيار لدى الجاني، لكنها تذهب إلى أن هذه الحرية غير مطلقة ولا متساوية عند جميع الاشخاص بخلاف ما تذهب إليه المدرسة التقليدية  فأما إنها غير مطلقة فلأن هذه الحرية هي قدرة مقاومة الدوافع والميول المختلفة، وهذه القدرة بما جبل عليه الانسان من طباع وما وجدفيه من ظروف. 

ومصادر الارادة البشرية يتعذر حصرها سواء اكانت ترجع الى الوراثة ام الى تكوينه الفطري لكنها في نفس الوقت  قيود تقيد من حريته في الاختيار، فاذا كان الانسان مسئولاً ادبياً فليس الى المدى الضخم الذي يستثير الشك ويتعذر فيه الاثبات.

وأما إن هذه الحرية غير متساوية عند الكافة فلأنها تتفاوت باختلاف الميول من انسان إلى آخر، باختلاف الازمنة والملابسات عند الشخص الواحد، لكنها تترك للأشخاص مجالاً متفاوتاً للاختيار بين نقيض الخير والشر، فضلا عن مدى اختلاف الإدراك، بشرط ان يكون الجاني اعتيادياً ولمثله يتوجه اي شارع وضعي بالخطاب.

إذن، فمذهب هذه المدرسة انه توجد درجات متفاوتة للاختيار الحر، وتوجد بالتالي حالات تكون الاهلية الجنائية ناقصة وليست منعدمة، ويظهر ذلك واضحاً بالنسبة للأشخاص  الذين لا يوجد لديهم مرض عقلي، وانما يكونون عرضة لمرض نفسي أو الى ظروف نفسية لا تصل بهم الى حالة انعدام الاهلية الجنائية . وقد أدى هذا التفكير الى ان تتبنى المدرسة التقليدية الجديدة فكرة المسؤولية الجنائية المخففة، وطالبت بإدخال الظروف القضائية المخففة تبعاُ لذلك . ومن هنا بدأ التفكير في تفريد العقوبة تبعاً للظروف الخاصة بكل مجرم .

أثر المدرسة التقليدية الجديدة

كان للمدرسة التقليدية الجديدة اثرها الواضح في اضفاء طابع رحيم في المدونات العقابية السارية في تلك الفترة، وظهر أثر ذلك في التعديل الذي ادخل في قانون العقوبات الفرنسي في 28ابريل سنة 1832 والذي الغى بمقتضاه وسائل التنكيل كقطع اليد (قبل تنفيذ عقوبة الاعدام بالنسبة لقاتل الاب )، وتعميم نظام الظروف القضائية المخففة بالنسبة لجميع انواع الجرائم، كما الغيت عقوبة الاعدام بالنسبة للجريمة السياسية بناء علي الدستور الصادر في نوفمبر سنة 1848.

تقدير فكرة هذه المدرسة

لا ريب في ان تعاليم هذه المدرسة التقليدية الجديدة قد اضافت جديداً الى العلم الجنائي يعتبر اساساً للاتجاه في التعويل على شخصية الجاني والسعي نحو اصلاح، وقد ساهم ذلك في تطوير اساليب المعاملة العقابية بما يحقق هذه الغاية.

فضلاً عن ان هذه المدرسة قد وصلت بسبب اعتدالها بين الجبرية والحرية الى حلول موفقة كثيرة خصوصاً فيما يتعلق بنفي المساواة في حرية الاختيار بين جميع الجناة، وبالتالي الى ايجاد حالات كثيرة من المسؤولية المخففة لتفاوت حرية الاختيار لدى الجناة، وبصرف النظر عن تساوى الاضرار او عدم تساويها.

ومع ذلك لم يخل فكر هذه المدرسة من الانتقاضات التي يمكن اجمالها فيما يلي:

  1. عيب على هذه المدرسة إنها لم تضع معياراً محدداً لحرية الاختيار يمكن ان يتعرف بها على مقدارها وحالات انتفائها، والقول بتدرج حرية الاختيار و المسؤولية الجنائية تبعاً لذلك  لا يتفق مع مصلحة المجتمع، إذ انه يؤدي الى تخفيف العقاب على العائد ومعتادي الاجرام.
  2. ان منطق هذه المدرسة يحصر غرض العقوبة في العدالة والردع العام دون الردع الخاص.
  3. واخيراً قد قيل بأن فكر هذه المدرسة يفسح المجال للعقوبات قصيرة المدى و إذ هي توسع من نطاق الظروف المخففة ثم تضيف الى ذلك حالات المسؤولية المخففة لانتقاص حرية الاختيار والعقوبة القصيرة المدة سيئة في السياسة الجنائية المعاصرة لعدم صلاحيتها لتحقيق اي غرض من اغراض العقوبة سوار في الردع او الاصلاح.

  • المقال

  • الكاتب:

    الدكتور مينا فايق
  • تصنيف:

    القانون الجنائي القانون المصري المحاضرات علم العقاب