متى تكون المحكمة ملزمة بندب خبير فني؟
متى تكون المحكمة ملزمة بندب خبير فني؟
الخبرة الفنية: ضرورة قضائية حاسمة
تعد الخبرة الفنية أداة قضائية محورية لا غنى عنها في العديد من الدعاوى، حيث تسهم في الكشف عن الحقائق التي تستعصي على الفهم القانوني المجرد، وتحتاج إلى إيضاح من ذوي الاختصاص في مجالات تقنية أو علمية أو محاسبية. ورغم أن الأصل في تقدير الحاجة إلى الخبرة يرجع إلى السلطة التقديرية للمحكمة، إلا أن هناك حالات محددة يفرض فيها القانون أو طبيعة النزاع على المحكمة التزامًا قاطعًا بندب الخبير. هذا المقال يستعرض هذه الحالات بدقة، موضحًا الشروط والضوابط التي تحكم هذا الالتزام، وكيف يمكن للأطراف الاستفادة من هذه الإجراءات لضمان تحقيق العدالة الناجزة.
أسس التزام المحكمة بندب الخبير الفني
الأصل العام في القانون المصري يمنح المحكمة سلطة تقديرية واسعة فيما يتعلق بندب الخبراء. فالمحكمة هي الخبير الأعلى في تقدير الوقائع، ولها مطلق الحرية في الأخذ بتقرير الخبير أو عدم الأخذ به، أو حتى عدم ندبه من الأساس إذا رأت أن وقائع الدعوى واضحة ولا تحتاج إلى خبرة فنية. ولكن هذا الأصل يعتريه استثناءات تفرض على المحكمة التزامًا قانونيًا قاطعًا لا يمكن التحلل منه، وذلك للحفاظ على حسن سير العدالة وضمان الوصول إلى حكم سليم ومبني على أسس فنية صحيحة. هذا الالتزام ينبع من ضرورات موضوعية أو من نصوص قانونية صريحة لا تترك للمحكمة خيارًا سوى الاستعانة بالخبير.
الحالات التي يفرض فيها القانون أو طبيعة النزاع ندب الخبير
أولاً: النص القانوني الصريح
تعتبر هذه الحالة من أوضح حالات الالتزام، حيث ينص القانون بشكل مباشر على ضرورة ندب الخبير في أنواع معينة من الدعاوى أو المسائل. فإذا ورد نص قانوني يلزم المحكمة بذلك، فإنه لا يجوز لها مخالفته تحت أي مبرر. هذا النوع من النصوص يهدف إلى ضمان توحيد الإجراءات وتحقيق العدالة في القضايا التي تتسم بطبيعة فنية بحتة، والتي لا يمكن الفصل فيها دون رأي متخصص. ومن الأمثلة على ذلك، النصوص التي تلزم المحكمة في قضايا معينة، مثل قضايا الإصابات الناتجة عن حوادث السيارات حيث يلزم ندب خبير طبي لتقدير نسبة العجز، أو في قضايا الهندسة الإنشائية التي تتطلب رأي مهندس متخصص.
ثانياً: تعذر إثبات الواقعة بغير الخبرة
تنشأ هذه الحالة عندما تكون الواقعة المطلوب إثباتها ذات طبيعة فنية متخصصة إلى الحد الذي يستحيل معه على المحكمة، بما تملكه من خبرة قانونية عامة، أن تصل إلى الحقيقة فيها دون الاستعانة برأي خبير. في هذه الظروف، لا يكون أمام المحكمة خيار سوى ندب خبير فني، لأن إغفال ذلك يعني العجز عن الفصل في الدعوى أو الفصل فيها على غير أساس سليم. يجب أن تكون المسألة معقدة للغاية وتجاوز نطاق المعرفة القضائية العادية، ولا يكفي مجرد صعوبة الأمر ليصبح ندب الخبير إلزاميًا.
الأمر هنا لا يتعلق بتقدير قيمة دليل قائم، بل يتعلق بإيجاد الحقيقة نفسها. على سبيل المثال، في قضايا التزوير الفني للخطوط أو التوقيعات، حيث لا تستطيع المحكمة أن تجزم بصحة التوقيع من عدمه دون الرجوع إلى خبير خطوط. وكذلك في قضايا الحسابات المعقدة للشركات الكبيرة التي تتطلب مراجعة دقيقة من محاسب قانوني متخصص لتحديد الذمم المالية. وفي مثل هذه الحالات، يعتبر ندب الخبير ضرورة حتمية للوصول إلى حكم عادل ومستنير.
ثالثاً: حاجة المحكمة لتكوين قناعتها
قد تجد المحكمة نفسها في موقف لا يمكنها فيه تكوين قناعتها الكاملة بشأن حقيقة فنية معينة من خلال الأدلة المقدمة أو من خلال فهمها العام للقضية. في هذه الحالة، حتى لو لم يكن هناك نص قانوني صريح يلزمها، فإن المحكمة تلتزم بندب الخبير كوسيلة وحيدة أو أساسية لتنوير بصيرتها القضائية. هذا يحدث عندما تكون هناك شكوك أو غموض حول نقاط فنية جوهرية، وعندما يكون رأي الخبير هو السبيل الوحيد لإزالة هذا الغموض وتوضيح الحقائق اللازمة للفصل في النزاع.
إن هذا الالتزام لا يعني أن المحكمة تلتزم برأي الخبير بعد تقديمه، فهي لا تزال تتمتع بسلطة تقديرية في الأخذ به أو عدم الأخذ به أو حتى الأمر بخبرة أخرى. لكن الالتزام هنا ينصب على إجراء الندب ذاته. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك نزاع حول مدى صلاحية جهاز فني معقد، وكانت الأوراق المقدمة غير كافية لتمكين المحكمة من تحديد ذلك، فإنها تكون ملزمة بطلب رأي خبير هندسي متخصص. هذا يضمن أن الحكم القضائي يستند إلى فهم شامل ودقيق لكل أبعاد القضية الفنية.
رابعاً: استكمال جوانب القصور في تقرير خبرة سابق
في بعض الحالات، قد تكون المحكمة قد ندبت خبيرًا بالفعل، ولكن تقريره جاء قاصرًا أو غامضًا أو لم يتناول كل الجوانب الفنية المطلوبة للفصل في النزاع. هنا، تلتزم المحكمة إما بإعادة المأمورية لذات الخبير لاستكمال النقص، أو بندب خبير آخر لاستكمال المهمة أو إعادة بحثها بالكامل إذا وجدت أن التقرير الأول لا يصلح كأساس للحكم. هذا الالتزام يضمن أن الإجراءات تتم على أكمل وجه وأن الحقيقة الفنية تُستجلَى بكل دقة ووضوح.
إن المحكمة في هذه الحالة لا تكون أمام خيار الإغفال، بل هي ملزمة باتخاذ الإجراء اللازم لتدارك النقص في الأدلة الفنية. فإذا كان هناك نزاع على قيمة أعمال مقاولات، وقدم الخبير تقريرًا يوضح جزءًا من الأعمال دون الآخر، فإن المحكمة تلتزم بتوجيه الخبير لاستكمال تقدير قيمة جميع الأعمال، أو ندب خبير جديد لتقييمها بالكامل لضمان عدالة التقدير. الهدف هو الوصول إلى الحقيقة الكاملة التي لا تقبل الشك من الناحية الفنية.
اعتبارات إضافية لضمان فعالية الخبرة الفنية
لتحقيق أقصى استفادة من الخبرة الفنية، يجب على الأطراف والمحكمة مراعاة عدة اعتبارات تضمن أن يكون هذا الإجراء فعالاً ومنتجًا. هذه الاعتبارات تسهم في تسريع وتيرة التقاضي، وتضمن أن يكون التقرير الفني شاملاً ودقيقًا وقابلاً للاعتماد عليه في إصدار الحكم. إن التخطيط الجيد لمأمورية الخبير وتحديد النقاط المطلوب منه بحثها بوضوح يمثلان خطوات جوهرية نحو تحقيق العدالة في القضايا ذات الطابع الفني المعقد.
تحديد نطاق مأمورية الخبير بدقة
يجب على المحكمة، عند إصدار قرار ندب الخبير، أن تحدد نطاق مأموريته بدقة ووضوح، وأن تبين له المسائل الفنية التي يتعين عليه بحثها وتقديم تقرير عنها. هذا يجنب الخبير الخروج عن نطاق المهمة المسندة إليه، ويضمن أن يركز جهوده على النقاط الجوهرية التي تحتاج إلى رأيه الفني. كما يتيح للأطراف معرفة ما سيتم فحصه ويمكنهم من تقديم مستنداتهم وأوجه دفاعهم المتعلقة بتلك النقاط بفاعلية أكبر.
دور الأطراف في تفعيل الالتزام
على الرغم من أن الالتزام بندب الخبير يقع على عاتق المحكمة، إلا أن للأطراف دورًا هامًا في تفعيل هذا الالتزام. يمكن للخصوم أن يطلبوا ندب الخبير، وأن يوضحوا للمحكمة الأسباب التي تجعل الخبرة ضرورية، وأن يبينوا الطبيعة الفنية المعقدة للمسائل المتنازع عليها. تقديم طلبات واضحة ومدعومة بالحجج القانونية والفنية يمكن أن يدفع المحكمة إلى إصدار قرار الندب حتى في الحالات التي قد تبدو فيها المسألة للوهلة الأولى لا تستدعي خبرة.
متابعة تقرير الخبير والاعتراض عليه
بعد تقديم تقرير الخبير، يجب على الأطراف دراسته بعناية. إذا وجد أي من الأطراف أن التقرير قاصر أو غير دقيق أو لم يجب عن كل الأسئلة المطروحة، أو كان مبنيًا على فهم خاطئ للوقائع، فله الحق في الاعتراض عليه وطلب استكماله أو ندب خبير آخر. هذا الإجراء يضمن مراجعة دقيقة للرأي الفني ويمنع إصدار حكم يعتمد على تقرير معيب، ويسهم في الوصول إلى حلول قضائية سليمة مبنية على حقائق مؤكدة.
الخاتمة
إن التزام المحكمة بندب خبير فني ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو ضرورة حتمية في حالات معينة لضمان تحقيق العدالة وإصدار أحكام قائمة على أساس سليم من الناحية الفنية. فهم هذه الحالات، سواء كانت بنص القانون الصريح أو بطبيعة النزاع أو لحاجة المحكمة لتكوين قناعتها، يعد أمرًا بالغ الأهمية لكل من القضاة والمتقاضين. باتباع هذه الضوابط والإجراءات، يمكن للنظام القضائي المصري أن يستفيد إلى أقصى حد من الخبرات المتخصصة، مما يضمن كفاءة ودقة الأحكام القضائية في القضايا المعقدة والمتشابكة.
إرسال تعليق