موانع الشهادة الخاصة لجرائم الحدود والقصاص
أولاً : رد شهادة الفروع مانع من قبول شهادة الأصول:
يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا شهد الفروع وردت شهادتهم ثم جاء الأصول فأدوا تلك الشهادة لم تقبل ، وذلك لأن شهادة هؤلاء الأصول قد ردها المشرع من وجه يرد شهادة الفروع في عين الحادة التي شهد بها الأصول ، إذ هم قائمون مقامهم وشهادتهم كشهادتهم فكان ذلك شبه ، والحدود تدرأ بالشبهات ، ولا حد على شهود الأصل والفرع ، إذا كانت الشهادة بزنا لأن عددهم متكامل ، فلم تكف شهادتهم قذفاً ، وإنما درج الحد عن المشهود عليه للشبهة ، وهي معتبرة في إسقاط الحد لا في إيجابه ، ولم يقل بذلك سائر الفقهاء .
لكن يلاحظ على هذا الرأي أن رد شهادة الفروع بمعنى يختص بهم لا ينبغي أن تمتد آثاره إلي شهادة الأصول ما دامت شروط الشهادة متوفرة فيهم ، والتوسع في تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات ، من غير ضوابط يؤدي إلي عدم ثبوت الحدود بالكلية ، إذ أن أكثر الأدلة عرضة لتطرق الشبهة إليها ، والشبهة المعتبرة عند الفقهاء هي ما يشبه الثابت وليس بثابت وذلك غير متوفر في هذا الفرض .
ثانياً : ارتكاب جريمة مانعة من الشهادة علي مثلها:
هناك خلاف في الفقه الجنائي الإسلامي حول ما إذا كان من أقيم عليه حد لا تقبل شهادته على من ارتكب مثل الجريمة التي حد من أجلها ، إذ يرى المالكية في المشهور من مذهبهم أن من أقيم عليه حد لا تقبل شهادته على من ارتكب مثل الجريمة التي حد من أجلها ، لأنه متهم إذ يود أن يكون الناس مثله.
وفي رواية ثانية عن الإمام مالك أن ذلك لا يوجب رد الشهادة ، وهذا في اعتقادنا هو الراجح ، إذ أن مقياس شهادة عدالته ، فإذا تحققت فلا معنى لردها لمجرد التخيل وما عللوا بغير مسلم إذ أنه كان يود أن يصير الناس مثله ، فهو مستحق للعقاب الدنيوي والآخروي ، لقوله جل ذكره : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) ، فينبغي أن ترد شهادته في الحدود وغيرها ، ولكن ما الذي يدلنا على ذلك وهو أمر نفسي ولا يعلم خفايا النفوس إلا لله ، فلم يكن لقول به معنى .
ثالثاً: عدم طهارة المولد:
اختلف الفقهاء الشرعيون حول قبول شهادة ولد الزنا في جريمة الزنا على رأيين:
الرأي الأول : يذهب إلي أن شهادة ولد الزنا لا تقبل في حد الزنا لما روى عن عثمان أنه قال : " ودت الزانية أن النساء كلهن زانين " ، ويمثل هذا الرأي مالك والليث وبن سعد.
الرأي الثاني : يرى عدم التفريق بين ولد الزنا وغيره ما دام عدلاً لعموم النصوص الواردة في الشهادة وقوله تعالى : ( فإن لم تعلموا آبائهم فإخواتكم في الدين ومواليكم ) ، وإذا كانوا أخوانا لنا في الدين ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ، ولأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فقبلت شهادته في الزنا لغيره ، لأن فسق الوالدين لا يستلزم فسق الولد كما لو كانا كافرين ، لأن الزاني لو تاب قبلت شهادته ، هو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته فولده أولى ، فإنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه ، وما يتعدى الحكم إلي غيره من غير أن يثبت في حقه مع أن ولده لا يلزمه شيء من وزره لقوله تعالي : ( لا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وهو لم يفعل ما يستوجب عليه العقاب . وهذا هو رأي مذهب الجمهور.
بعد بسط وجهات النظر فيما تقدم فإننا نرى أن الرأي الثاني هو الأقرب إلي الصواب وذلك لأن مناط قبول شهادة الشاهد عدالته إذ بتحققها يترجح جانب الصدق في خبره ، ولا فرق في هذا بين ولد الزنا وغيره.
وقد أجيب على ما احتج به الرأي الأول أن استدلالهم بما روى عن عثمان بن عفان ، فلم تثبت صحته إذ أن أحداً من جامعي الاحاديث والآثار لم يشر إلي هذا القول ، كما أنه من غير اللائق أن يقول عثمان رضى الله عنه كلاماً بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تفصح عنه ، والعلم بمكنون الضمائر غيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
خاتمة: تلكم أهم الموانع الخاصة بالشهادة على جرائم الحدود والقصاص وهي تثير من جديد مسألة تشدد الفقه الجنائي الإسلامي في إثبات جرائم الحدود والقصاص ، وذلك عن طريق استبعاد طوائف معينة من الشهود لأسباب معينة منها أن رد شهادة الفروع مانع من قبول شهادة الأصول ، وأن ارتكاب جريمة مانعة من الشهادة على مثلها ، وأن شهادة ولد الزنا غير مقبولة في جريمة الزنا .
وواقع الأمر أن الغاية التي يبتغيها الفقهاء الشرعيون من هذا الاستبعاد هو الوصول إلي شهادة صادقة بعيدة عن مواطن الريبة والشك التي قد يكون مبعثها سبباً من الأسباب سالفة الذكر ، وأياً ما كان الأمر فإنه ينبغي خضوع مثل هذه الأسباب لتقدير القاضي الذي بيده أمر تقدير قيمتها الإثباتية.