إثبات أركان الجريمة وظروفها وشروطها المفترضة

القانون الجنائي إثبات أركان الجريمة وظروفها وشروطها المفترضة
إثبات أركان الجريمة وظروفها وشروطها المفترضة


عبء إثبات العناصر المكونة للجريمة

في المواد الجنائية - كما هو الحال في المواد المدنية - فإن عبء الإثبات يقع علي عاتق المدعي , وهكذا فإن عبء إثبات العناصر المكونة للجريمة يقع بصفة رئيسية علي عاتق سلطة الاتهام وبالتبعية علي المدعي المدني , وهذا الأخير قد يلعب دوراً هاماً وذلك في حالة ما إذا كانت الدعوي قد رفعت أساساً بواسطته , ففي هذه الحالة يجب عليه إثبات عناصر الجريمة , وتحقق الضرر ورابطة السببية التي تربط هذا بسلوك المتهم , ومن باب أولى يمكنه أن يرفع هذه الدعوى دون أن يطالب بأية تعويضات , وفي هذا الفرض عليه إثبات العناصر المكونة للجريمة.

لكن في الغالب فإن المدعي المدني يستفيد من عناصر الإثبات التي تقدمها سلطة الاتهام والتي تعتبر - وبحق - الطرق الرئيسي والهام في الدعوى الجنائية , والتي تستطيع أن تملأ هذا الدور بكل موضوعية وحيادية , فسلطة الاتهام - كما يقول الفقيه الفرنسيpatarin  ليست مجرد مدعي عام , بل إنها تحمي براءة البريء كما تحمي إدانة المتهم , ولذا يجب عليها جمع عناصر الإثبات التي في صالح المتهم إذا ظهرت لها , وتقدمها للقضاء لأنها باعتبارها نائبة عن المجتمع يهمها إثبات براءة البريء كما يهمها إثبات إدانة المدان .

وهكذا يجب علي النيابة العامة أن تثبت كل العناصر المكونة للجريمة , سواء كانت هذه العناصر عامة أو خاصة , كما يجب عليها أيضاً أن تهدم كل عناصر قرينة البراءة وذلك علي النحو التالي:

أ) بالنسبة لإثبات الركن المادي

فإن سلطة الاتهام والمدعي المدني علي كل منهما إثبات هذا الركن أياً ما كانت طبيعة الجريمة , والمدعي المدني عليه فوق ذلك إثبات وجود الضرر , ويبدو أن القانون الجنائي يختلف في هذا الصدد عن القانون المدني حيث أن عبء الإثبات في المواد الجنائية يكون أكثر ثقلاً لأنه لا يكفي مجرد إثبات ارتكاب فعل ضار بل يجب إثبات كل العناصر التي تدخل في التعريف القانوني للجريمة التي ارتكبت . 

لكل هل يجب القيام بهذا الإثبات حتي ولو كان النشاط الإجرامي محل الإثبات سلبياً ؟

من المعروف أن السلوك الإجرامي كما قد يكون إيجابياً فإنه يمكن أن يكون سلبياً  , وفي هذا الفرض الأخير يتساءل الفقهاء عما إذا كانت الواقعة السلبية تصلح لأن تكون موضوعاً للإثبات ؟ 

يري بعض الفقهاء أن سلطة الاتهام لا يمكن لها إقامة الدليل علي الوقائع السلبية المحضة بسبب صعوبة هذا الإثبات , وبالتالي يجب علي المتهم أن يثبت وجود وقائع إيجابية تنفي هذا النشاط السلبي , ففي جريمة التشرد مثلاً يجب علي المتهم أن يثبت أن له مسكناً مستقراً وذلك لأن واقعة عدم وجود مسكن مستقر ليس من الميسور إثباتها من جانب النيابة العامة , وقد أيد بعض الفقهاء هذا الرأي , كما اعتنقته بعض الأحكام , فقضت بأنه في جريمة التشرد يقع علي عاتق المتهم إثبات أن له مسكناً مستقراً ولديه وسائل مشروعة للعيش أو أنه يزاول مهنة أو حرفة وذلك لأن وقائع عدم وجود سكن مستقر ووسائل التعيش ومزاولة المهنة أو الحرفة يصعب إثباتها من جانب سلطة الاتهام.

لكن هذا الرأي منتقد من غالبية الفقهاء , لأنه مناف لقرينة البراءة , ولذا يجب علي سلطة الاتهام إثبات أي عنصر يتوقف علي تخلفه عدم قيام الجريمة , كما أن إثبات الواقعة السليمة ليس مستحيلاً لأنه يتوقف علي إثبات الواقعة الإيجابية المُضادة كإثبات النوم الدائم في الطريق العام أو الإقامة فيه علي وجه الدوام مع التعطل من العمل وذلك في جريمة التشرد.

ومن المفيد في هذه المناسبة أن نذكر أنه ربما يقال إن الصعوبة الحقيقية تكمن في إثبات الوقائع السلبية غير المحددة . 

ولذا فإن محكمة النقض تطلب من المتهم إثبات واقعة معينة بحيث يعتبر عدم وجودها كافياً لقيام الجريمة , ومثال ذلك جريمة إشغال الطريق العام دون مقتضى , ففي هذه 

الجريمة علي المتهم أن يثبت الضرورة التي دفعته إلي هذا السلوك .

ومع ذلك , فإنه حتي بالنسبة للطبيعة غير المحددة للوقائع السلبية المراد إثباتها لا يمكن أن تكون سبباً كافياً لقلب عبء الإثبات ووضعه علي عاتق المتهم طالما لا يوجد نص قانوني يقرر ذلك . 

ولذا نخلص إلي القول أنه يجب علي سلطة الاتهام أن تثبت كل العناصر المادية وكل العناصر السلبية حتي ولو كانت غير محددة طالما لم يوجد نص مخالف.

وجدير بالذكر أن الجريمة قد تكون جريمة تامة , كما يمكن أن تقف عند حد الشروع , فإذا كان الاتهام بجريمة تامة فيجب علي سلطة الاتهام إثبات وقوع النتيجة بمعني الاعتداء علي الحق أو المصلحة التي يحميها قانون العقوبات , ومن الأمثلة البارزة علي ذلك الموت في القتل أو المرض أو العجز عن الأشغال الشخصية في الضرب والجرح ونزع الحيازة في السرقة وتقف النتيجة في نطاق قانون العقوبات عند هذا الحد , أما ما يلي ذلك من نتائج فيدخل في حساب التعويض المدني , ومثال ذلك ما يترتب علي القتل من أضرار مادية أو أدبية للأحياء , وعندئذ يكون محلاً للإثبات إذا كانت هناك دعوى مدنية تابعة للدعوى العمومية ويدور الإثبات حول علاقة السببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة . 

والنظر إلي السلبية يكون من الناحية الموضوعية وليس من الناحية العضوية , فلا يرجع فيها إلي توقع صاحب السلوك أو إلي ما كان يجب عليه أن يتوقعه , وإنما إلي ما إذا كانت النتيجة محتملة الوقع بسبب السلوك طبقاً لما تجري عليه الأمور عادةً , فإذا تداخل عامل بين السلوك والنتيجة فيتعين استظهاره لبيان ما إذا كان يقطع علاقة السببية أو لا يقطعها , فالإهمال البسيط في العلاج من المجني عليه أو الطبيب لا ينفي مسئولية الفاعل عن النتيجة التي تترتب علي سكوته , ولكن الإهمال الجسيم أو تعمد المجني عليه تسوئ حالة أو بعبارة عامة تصرفه الخارج عن المألوف يقطع علاقة السببية بين سلوك المتهم والنتيجة التي تحدث , ومن المسلم به أن خطأ المجني عليه يقطع علاقة السببية متي استغرق خطأ الجاني وكان كافياً بذاته لإحداث النتيجة . 

أما إذا كان الاتهام بجريمة مشروع فيها , فإنه يجب علي سلطة الاتهام إثبات البدء في 

التنفيذ والذي يتميز به الشروع عن المراحل السابقة للإعداد للجريمة . 

كذلك في حالة الاشتراك , فإنه علي سلطة الاتهام أن تثبت الواقعة الرئيسية المكونة للجريمة , والقصد الجنائي , وأحد أفعال الاشتراك المنصوص عليها بواسطة القانون ( المادة 60 ع فرنسي ) , ( المادة 40 ع مصري ) .

ب) بالنسبة لإثبات الركن المعنوي

لا يكفي لإدانة المتهم مجرد إثبات الفعل او الامتناع من جانبه , إنما يجب بالإضافة إلي ذلك اثبات أن هذا الفعل أو الامتناع كان بمحض إرادته , أي ارتكابه عمداً أو قصداً , فالعمد أو القصد يعني ببساطة العلم بارتكاب فعل إجرامي , وإرادة ارتكاب هذا الفعل وهذا القصد يوصف بأنه قصد عام , ويقع علي عاتق سلطة الاتهام إثباته.

وفي بعض الجرائم قد يتطلب القانون نوعاً خاصاً من القصد , ومن الأمثلة البارزة علي ذلك , نية إزهاق الروح في القتل العمد , ونية التملك في جريمة السرقة , ففي هذين الفرضين وفي كل الجرائم ذات النتائج ينبغي علي سلطة الاتهام أن تثبت أن الجاني كان يريد الوصول إلي نتيجة إجرامية محددة بنص القانون . 

والعنصر المعنوي لا يقتصر فقط علي حالة الجريمة التامة بل يكون واجباً أيضاً في حالة مجرد الشروع وفي هذا الفرض الأخير فإن عبء القصد الجنائي يقع علي عاتق سلطة الاتهام.

كذلك في حالة الاشتراك , فإنه يجب توافر القصد الجنائي والذي يتمثل في إرادة أو نية المشاركة في تحقيق الجريمة المرتكبة , ولذ1 يقع علي عاتق سلطة الاتهام إثبات أن الشريك قصد الاشتراك في الجريمة وهو عالم بها , وأن تثبت أيضاً أن هذا الشريك مع علمه بالواقعة ساعد في الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكاب جريمة محددة في الواقع , بحيث لا يتحقق الاشتراك إذا ارتكب الفاعل جريمة مختلفة تماماً عن تلك التي قصدها الشريك . 

أما بالنسبة للباعث أو الدافع علي الجريمة فإنه شيء متميز عن القصد الجنائي , وبالتالي فإنه لا يؤثر علي العقاب ولا تلتزم سلطة الاتهام بإثباته , ومع ذلك في بعض الحالات الاستثنائية قد يأخذ القضاة بعين الاعتبار هذه البواعث أو الدوافع التي حركت المتهم ودفعته إلي ارتكاب الجريمة وخاصةً ما إذا كانت سامية أو شريفة , بعبارة أخرى , فإن نبل الباعث أو الدافع يمكن أن يكون ظرفاً مخففاً للعقاب , والأمر لا يقتصر علي الممارسة القضائية فحسب , بل إنه يمتد أيضاً إلي نطاق التشريع , حيث يمكن أن يصبح ظرفاً مشدداً للعقاب , ومن أبرز الأمثلة علي ذلك جريمة خطف القاصر من أجل الحصول علي فدية , ففي هذا الغرض يجب علي سلطة الاتهام أن تثبت أن الباعث الذي حدا بالمتهم إلي اقتراف جريمته هو الحصول علي جزء من المال كفدية . 

وإذا كانت الجريمة غير عمدية , فإنه يجب علي سلطة الاتهام إثبات خطأ المتهم , وهذا الخطأ قد يكون بسبب عدم التبصر أو الإهمال من ناحية , كما قد يكون بسبب عدم مراعاة اللوائح من ناحية أخرى . 

وفيما يتعلق بخطأ عدم التحرز والإهمال , إن سلطة الاتهام يجب أن تثبت الخطأ حسب الأوصاف المنصوص عليها في النص التجريمي , فعلي النيابة العامة أن تثبت ليس فقط الخطأ الذي ارتكبه المتهم , بل أن تثبت أيضاً النتيجة الضارة التي تمت عن خطئه . 

الخطأ في هذه الحالة يمكن أن يكون وسيلة للدفاع يدفع بها المتهم من أجل تبرئة ساحته ويبدو ذلك في حالة ما إذا اتسم الخطأ بخصائص " الخطأ المشترك " أو " الخطأ العام " بحيث لو وضع أي شخص عادي في نفس ظروف المتهم لكان قد وقع في نفس الخطأ , ومن باب يمكن أن يعفي المتهم من المسئولية عن خطئه إذا أصبح في مصاف القوة القاهرة . 

أما في حالة خطأ عدم مراعاة اللوائح , فإن سلطة الاتهام لا يقع علي عاتقها إثبات عدم التحرز أو الإهمال , بل يكفي أن تثبت أن اللائحة قد خالفها المتهم , أو هناك علاقة نسبية بين مخالفة هذه اللائحة وتحقيق الضرر , وفي هذه الحالة - علي عكس الفرض السابق - لا يستطيع المتهم أن يعفي من خطئه بإثباته القوة القاهرة مثلاً . 

وسواء كان الخطأ بسبب عدم التبصر أو الإهمال , أو كان بسبب عدم مراعاة اللوائح , فإن دور سلطة الاتهام لا يقتصر علي إثبات الخطأ , بل ينبغي أيضاً إثبات علاقة السببية بين هذا الخطأ والنتيجة المحققة . 

ج) جدل بالنسبة لإثبات العنصر الشرعي أو القانوني : 

فإنه وإن كان مبدأ الشرعية عنصراً جوهرياً للإدانة في أية جريمة , إذ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص , إلا أنه ليس من الضروري إثبات هذا العنصر علي أساس أنه متعلق بالقانون , وعلم الناس بالقانون مفترض , إذ لا يقبل الاحتجاج بجهل أحكام القانون وهذه قاعدة مقررة في غالبية التشريعات , ولذلك لا تكون القاعدة القانونية محلاً للإثبات . 

فالقاضي , وهو المنوط به تطبيق نص القانون علي الواقعة , عليه أن يبحث عن القاعدة القانونية واجبة التطبيق , وعليه أيضاً أن يفسر هذه القاعدة , وأن يحكم بما يؤدي إليه فهمه لها تحت رقابة محكمة النقض . 

ومع ذلك , قد تكون القاعدة القانونية محلاً للمناقشة والإثبات في بعض الحالات , ولذا يجب علي سلطة الاتهام حل جميع الإشكالات التي تتعلق بالعنصر الشرعي , كما لو أدعى شخص في مواد اللوائح بعدم نشر القرار في الجريدة الرسمية , فإن عبء إثبات هذا القرار علي عاتق النيابة العامة . 

عبء إثبات ظروف الجريمة : 

قلنا أن ظروف الجريمة منها ما يغير من وصفها وطبيعتها , ومنها ما يقتصر أثرها علي تغيير مقدار العقوبة سواء بالتشديد أو بالتخفيف :

أ) بالنسبة للنوع الأول من الظروف : ( ما يغير من وصف الجريمة أو طبيعتها ) : 

أي تلك التي تغير من وصف الجريمة أو من طبيعتها إذا أريد معاملة المتهم علي أساس سرقة بإكراه مثلاً .

فإنه ينبغي إثبات وجود إكراهاً مادياً موجهاً ضد إنسان , معاصراً لارتكاب السرقة أي من وقت الشروع فيها حتي إتمامها , وأن يكون هناك ارتباطاً بين الإكراه والسرقة أي أن تقوم بين الاثنين علاقة السببية , فلا إكراه إذا انتفت هذه العلاقة ولو كانا متعاصرين , ويكفي إثبات الإكراه بالنسبة لمن صدرت منه هذه الأفعال حتي يتعدى أثرها للمساهمين معه في ارتكاب الجريمة سواء أكان هؤلاء فاعلين أصليين أم مجرد شركاء , وسواء أعلموا بها أم لم يعلموا , وذلك لأن الإكراه ظرف مبني يستتبع التشديد علي جميع من قارف السرقة . 

أما إذا وقعت السرقة ليلاً , فعلى سلطة الاتهام أن تحدد الوقت الذي وقعت فيه الجريمة , وما إذا كان هذا الوقت يقع بين الفترة من غروب الشمس وشروقها.

كذلك فإن معاملة المتهم بالقتل العمد علي أساس سبق الإصرار يستوجب إثبات أن الجاني قد ارتكب الجريمة بعيداً عن ثورة الانفعال أي في هدوء وروية وتخلص المحكمة إلي ذلك من مضي زمن يذكر بين العزم والتنفيذ ومن إعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها , فلا تكن الجريمة وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب وجمع بها الغضب حتي خرج صاحبها عن طوره . 

ب) بالنسبة للنوع الثاني من الظروف : ( ما يغير من مقدار العقوبة سواء بالتشديد أو التخفيف ) : 

وهو الذي يقتصر أثره علي تغيير مقدار العقوبة سواء بالتشديد أو بالتخفيف أو بالإعفاء مبقياً للجريمة علي وصفها لا مبقياً علي خضوعها لنفس النص القانوني . 

فإذا تعلق الأمر بتشديد العقاب كما هو الحال في ظرف العود , فإن علي سلطة الاتهام أن تثبت – بالإضافة إلي عناصر الجريمة الجديدة – حالة العود وذلك لا يكون إلا بمقتضى صحيفة الحالة الجنائية حتي ولو اعترف المتهم بسبق الحكم عليه نهائياً بما يحقق ظرف العود . 

وفي تطبيق قانون الأحداث , يرجع إلي السن وقت ارتكاب الجريمة أو التعرض للانحراف , ولا يعتد في ذلك بغير وثيقة رسمية , فإذا ثبت عدم وجودها يقدر السن بواسطة خبير.

عبء إثبات الشروط المفترضة للجريمة

قد يتطلب القانون بجانب عناصر الجريمة بعض الشروط الأخرى التي يلزم توافرها لإمكان القول بقيام الجريمة , فمثلاً يشترط في جريمة خيانة الأمانة بجانب ركني الاختلاس أو التبديد ونية التملك , ثبوت سبق استلام الجاني المال بناء علي عقد من عقود الأمانة . 

ويتفق الركن والشروط في أنهما لازمان لقيام الجريمة وفي أنهما محلاً للإثبات , وفيما عدا هذا يختلفان في أن الشرط يسبق وقوع الجريمة وهو أمر مشروع , وذلك بالإضافة إلي أن الركن يثبت بكل طرق الإثبات , بينما الشرط يثبت بوسائل الإثبات المقررة في القانون الذي ينتمي إليه الشرط . 

فإذا كان الأصل في الإثبات الجنائي أنه يخضع لمطلق تقدير القاضي إلا أن مجل هذا الأصل ينحصر في إثبات أركان الجريمة لا شرطها المفترض , فهذا الشرط يخضع لحكم القانون الذي ينظمه . 

والسند التشريعي لهذه التفرقة , هو نص المادة 225 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص علي أنه " تتبع المحاكم في المسائل غير الجنائية التي تفصل فيها تبعاً للدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص بكل المسائل " , ومجل ذلك يكون في الشروط التي يفترض توافرها قبل وقوع الجريمة أي الشروط المفترضة .

ويبرر الاستاذ الدكتور / مأمون سلامة هذه التفرقة علي أساس أن قواعد الإثبات في المواد الجنائية تنصب علي العناصر والأركان التي يحققها الجاني بسلوكه وتنسب إليه وتكون محلاً للتجريم دون العناصر المفترضة . 

ولتوضيح أحكام عبء إثبات الشروط المفترضة للجريمة , فإنه ينبغي أن نفرق بين حالتين : 

الحالة التي يتناول فيها القاضي الجنائي العمل القانوني بوصفه مصدراً للشرط المفترض والحالة التي يتناول فيها القاضي هذا العمل بوصفه ركناً للجريمة.

أ) العمل القانوني بوصفه مصدراً للشرط المفترض

إذا كان مصدر الشرط المفترض عملاً قانونياً فإن طُرق الإثبات تتحدد بالقانون الذي يخضع له هذا العمل , فمثلاً يكون إثبات عقد الأمانة أو انقضائه بالكتابة إذا زادت قيمته عن عشرين جنيهاً , وذلك إعمالاً لنص المادة 60 من قانون الإثبات , كما قد يتحمل العمل القانوني في إجراء قضائي مثل توقيع الحجز كشرط مفترض في جريمة تبديد المحجوزات أو اختلاسها , فيجري إثباته حسبما هو مقرر في قانون المرافعات المدنية والتجارية , كذلك فإذا كان مصدر الشرط المفترض عملاً إدارياً فإن طرق الإثبات المقررة في القانون الإداري تكون وحدها واجبة التطبيق.

والحقيقة إذن تتجلى من التطبيقات السابقة هي ضرورة التزام القاضي بوسائل الإثبات المقررة في القانون الذي ينتمي إليه الشرط المفترض , غير أن هذا التقيد مشروط بأن يكون المراد إثباته هو الشرط المفترض في الجريمة فقط , أما إذا انصب الإثبات علي أمر أخر فإن القاضي الجنائي يسترد حريته في الاقتناع من أي دليل حتي ولو اختلط الأمر بعمل قانوني أو وقعت الجريمة بمناسبته .

وصفوة القول إن القاضي الجنائي في إثباته للشروط المفترضة للجريمة التي تستمد مصدرها من عمل قانوني يكون مقيداً بطرق الإثبات المقررة لإثبات هذا العمل , وفيما عد ذلك يجري إثباته بكل الطرق وفقاً لمبدأ حرية الإثبات.

ب) العمل القانوني بوصفه ركناً للجريمة

قلنا أنه عندما يكون مصدر الشرط المفترض عملاً قانونياً فإن طرق الإثبات تتحدد بالقانون الذي يخضع لهذا العمل أما إذا كان العمل القانوني ركناً في الجريمة فإنه يصبح مسألة جنائية تخضع لمبدأ حرية القاضي في الاقتناع , وبالتالي يجوز إثباته بكل طرق الإثبات . 

وتطبيقاً لذلك إذا أدعى في جريمة الإقراض بربا فاحش بوجود شرط الفائدة الربوية في عقد القرض جاز إثباته بكل وسائل الإثبات , كما أن الضرر في جريمة النصب يمكن أن ينتج من عمل قانوني ثابت بالكتابة بحيث أدعى أن ما جاء بهذه الكتابة غير صحيح , وأن هذه الكتابة قد تم التوقيع عليها نتيجة الاحتيال فإن الإثبات يكون مقبولاً أيضاً بكل الوسائل , ونفس الشيء يقال إذا تعلق الأمر بإثبات عكس ما هو ثابت بالكتابة.

والمتأمل في هذه التطبيقات لا يسعه إلا أن يلاحظ اندماج الواقعة الإجرامية والعقد في وحدة مما يستوجب منطقياً أن ينطبق عليها قواعد إثبات واحدة هي قواعد الإثبات في المواد الجنائية.

وفي ذلك يقول الاستاذ الدكتور فتحي سرور : إنه ينبغي عدم الخلط بين المسائل الجنائية التي تعتبر من المسائل الأولية لتعلقها بالشرط المفترض , والمسائل غير الجنائية في ظاهرها والتي لا تعتبر من المسائل الأولية لكونها تدخل في الركن المادي للجريمة .

في هذه الحالة لا يخضع إثبات هذه المسائل لغير قواعد الإثبات الجنائي.

وهذا قد يتبادر علي الفور إلي الأذهان التساؤل الآتي، هل يوجد تناقض بين قواعد الإثبات في المواد المدنية ومثيلتها في المجال الجنائي فيما يتعلق بهذه المشكلة ؟ 

في الواقع أنا نتجه إلي الإجابة عن ذلك التساؤل بالقول بأنه لن يكون في الامر تناقض بين قواعد الإثبات في القانون المدني وتلك الخاصة بالمواد الجنائية , وذلك علي أساس أن القاعدة التي تقرر أن العمل القانوني المدني يجب - بحسب الأصل - أن يثبت بالكتابة يدر عليها استثناء تقليدي في حالة الغش , أي حين يكون العمل محل الاعتبار مكوناً لعمل غير مشروع يراد إلغاء ما تحقق من آثاره , وبذلك يكون هناك تطابق بين فرض الغش هذا في القانون المدني وبين فرض العمل القانوني الذي يكون عنصراً من عناصر الجريمة في القانون الجنائي , وبذلك تكون القاعدة التي تحكم إثبات الأعمال القانونية غير المشروعة واحدة سواء في المواد المدنية أو في المواد الجنائية لأن تبريرها واحد في المجالين.

وأخيراً نود أن ننبه بأنه محكمة النقض المصرية قد أوردت تحفظاً فيما يتعلق بأحكام البراءة وعبرت عن ذلك بقولها : إن المحكمة في جريمة خيانة الأمانة في حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة في خصوص إثبات عقد الأمانة.

  • المقال

  • الكاتب:

    الدكتور مينا فايق
  • تصنيف:

    القانون الجنائي القانون المصري المحاضرات