الأمن الجماعي والنظام العالمي الجديد
مظاهر النظام العالمي الجديد:
لا شك أن النظام السياسي العالمي القديم الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وعرف بعالم يالتا ، وعالم الحرب البادرة ، وعالم الثنائية القطبية قد تلاشى وأصبح في حكم التاريخ .
والسؤال الذي نطرحه هنا هو كيف انهار النظام العالم القديم ، وماذا حدث في العالم خلال العشر سنوات الأخيرة ؟
وباستقراء كافة الأحداث التي طرأت على الساحة الدولية خلال العشر سنوات الأخيرة ، يمكن القول أن مظاهر النظام العالمي الجديد تتمثل في الآتي :
أولاً: انهيار الاتحاد السوفيتي السابق :
ربما لا يوجد حدث سياسي وأيديولوجي ف القرن العشرين يوازي انهيار الاتحاد السوفيتي ، لأن اختفاء دولة عظمي من الساحة الدولية بطريقة سلمية لا يتكرر كثيراً في التاريخ .
كان الاتحاد السوفيتي الدولة الأولى في العالم من حيث المساحة والثالثة من حيث السكان ، فمساحته تجاوز22 مليون كيلو متر مربع ، أي حوالي 20% من إجمالي مساحة الكرة الأرضية ، وكان الاتحاد السوفيتي الدولة الوحيد في العالم التي لها حدود مع حوالي 25 دولة مختلفة ، أما الاقتصاد السوفيتي فكان لحظة تفككه الرسمي عام 1991 ثاني أكبر اقتصاد في العالم ، حيث بلغ إجمالي ناتجه القومي حوالي 3 ترليون ( ألف مليار ) دولار .
كما كان الاقتصاد السوفيتي ضخماً نظراً لخضامة موارده وثرواته الطبيعية ، فالاتحاد السوفيتي كان من أكبر منتجي النفط والفحم والذهب والماس ، وكان يملك أكبر احتياطي للفحم والغاز الطبيعي تجاوز 75% من جملة الاحتياطي العالمي .
كما كان للاتحاد السوفيتي أعلى نسبة تعليم في العالم ، وأعلى نسبة علماء في العالم ، مما كان له أكبر الأثر في أن يتصدر الاتحاد السوفيتي أول دول العالم في تقنيات الليزر والتقنيات النووية والكهربائية وتقنيات الفضاء ما جعل الاتحاد السوفيتي ثاني أكبر قوى عسكرية في العالم .
وترتب علس سياسة "البيريسترويكا" أن فقد الاتحاد السوفيتي السابق لكل مواصفات الدولة العظمى ، وانتهي حلفه العسكري "حلف وارسو" ويعني ذلك أن الاتحاد السوفيتي قد اختصر من التاريخ ليمهد الطريق لعصر جديد ونظام عالمي جديد .
ثانياً : تزايد دور الولايات المتحدة وظهور قوى أخرى علي الساحة الدولية :
في الوقت الذي كان العالم يشهد تفكك دول عظمى واختفائها من التاريخ ، كان يتابع ظاهرة تاريخية أخرى هي تعاظم نفوذ الولايات المتحدة الامريكية كدولة عظمى تنفرد بالكامل بمقتضيات الأحداث على الساحة الدولية ، من خلال تحقيقها لأكبر قدر من النجاح والانتصارات السياسية وخاصة في محال الأمم المتحدة ، والعسكرية وخاصة مع بروز فعاليات حرب الخليج عام 1991 .
واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية استغلال التحولات التي طرأت على الساحة الدولية كي تزيد من حضورها على الساحة الدولية كدولة وحيدة تتمتع بكل مواصفات ومقومات الدولة العظمى ، وقد شكل انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية طبيعية للنظام العالمي القديم الذي كان أساساً نظام ثنائي القطبية ، كذلك شكل انفراد الولايات المتحدة بالشأن العالمي منذ بروز النظام العالمي الجديد الذي تؤكد كل المعطيات أنه أساساً نظام أحادي القطبية بيد أن انفراد الولايات المتحدة ليس هو السمة المميزة للنظام العالمي الجديد ، فبالإضافة إلى ذلك هناك البروز المفاجئ لكل من اليابان وأوروبا والصين ، كقوى كبرى جديدة .
فقد أزداد مؤخراً حضور اليابان كقوة اقتصادية ومالية وتكنولوجية عملاقة ، كما ازداد ادراك العالم بجدية مشروع الوحدة الاقتصادية الأوربية التي أصبحت حقيقة فاعلة من معطيات النظام العالمي الجديد ، كذلك أخذت الصين تبزر فجأ ليس كقوة بشرية ضخمة فحسب ، وإنما كقوة اقتصادية مهمة تتطلع إلى تبوأ دور سياسي على الساحة الدولية في ظل ما يعرف بالنظام العالمي الجديد .
ثالثاً : بروز قضايا عالمية جديدة على الساحة الدولية :
لم تقتصر مظاهر النظام العالمي الجديد على انهيار الاتحاد السوفيتي ، وبروز مفاجئ لقوى كبرى جديدة منافسة للولايات المتحدة ، بل أن النظام العالمي الجديد جاء وأمامه قضايا عالمية جديدة تبوأت مكانة مهمة على الساحة الدولية وأهمها على الإطلاق قضيتا التدهور البيئي وحقوق الإنسان .
وأدى بروز هذه القضايا الجديدة على الساحة الدولية إلى تراجع طبيعي للقضايا التقليدية العالمية مثل صراع الشرق والغرب والصراعات الإقليمية العنيفة وخاصة في الشرق الأوسط ، وقضايا سباق التسليح النووي ، وقضايا حرب الفضاء ، بعد أن خيمت هذه القضايا على الساحة الدولية لأكثر من 45 سنة متتالية .
رابعاً : الاتجاه نحو تسوية الصراعات الدولية بالطرق السلمية :
من أهم السمات الرئيسية للنظام العالمي الجديد اتجاه المجتمع الدولي إلى حسم الصراعات الإقليمية التقليدية المزمنة والتي كانت واحدة من أهم سمات النظام العالمي القديم بالطرق الودية ، ومن أهم هذه التسويات تسوية أطول وأعقد الصراعات الإقليمية كالصراع العربي الإسرائيلي .
وتؤكد كافة المؤشرات إلى أن النظام العالمي الجديد هو أكثر توافقاً واستقراراً وأقل توتراً من النظام العالمي القديم ، فالعالم لم يشهد سوى 29 صراعاً منها خمس صرعات فقط خلال عام 1994 ، وذلك مقابل 12 صراعاً عنيفاً خلال عقد الثمانينات .
وقد تضاعف إحساس العالم بالأمن والاستقرار العالمي نتيجة للانحسار التدريجي لسباق التسليح النووي الذي توج بالتوقيع النهائي على اتفاقية تجديد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية إلى آجل غير مسمى وذلك في مايو سنة 1995 .
الإعلان عن بداية النظام العالمي الجديد :
طرأت على العلاقات الدولية تغيرات عميقة وجوهرية أواخر القرن الماضي أدت إلى سقوط النظام العالمي القديم ، وقد تزامن سقوط هذا النظام مع الغزو العراقي للكويت والاندلاع السريع لحرب الخليج بمشاركة 35 دولة من دول العالم ، وشهدت المنظمة تحركات عسكرية في قوتها وحجمها تماثل كل التحركات التي حدثت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وواكبت التحركات العسكرية نشاطاً سياسياً ودبلوماسياً لم يشهده التاريخ السياسي المعاصر من قبل وخاصة على صعيد مداولات واجتماعات مجلس الأمن الذي كان في حالة انعقاد دائم ، وصدر خلال الفترة من 2 أغسطس 1990 وحتى 24 فبراير عام 1991 12 قراراً حول أزمة الخليج بما في ذلك القرار رقم 678 الذي يسمح باستخدام القوة ضد العراق إذا لم ينسحب من الكويت حتى 15 يناير 1991 .
وقد ساعدت التحركات الدبلوماسية والعسكرية الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز زعامتها الدبلوماسية والعسكرية وترسيخ فكرة نهائية النظام العالمي القديم ومولد النظام العالمي الجديد الذي جاءت ولادته الرسمية في خطاب الرئيس الأمريكي "بوش" في 11 سبتمبر 1990 ، عندما أعلن : " أننا اليوم على أعتاب نظام عالمي جديد سيُعهد إليه تحقيق السلم والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان والحرية الكاملة لشعوب الأرض " .